63

فيظهر من ذلك أنّه لو علم أنّ النجاسة كانت من السابق بطلت صلاته.

ولكلّ من الاحتمالين مؤيّدات:

أمّا مؤيّدات الاحتمال الأوّل فكما يلي:

1 ـ أنّه لو كان المقصود الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي لكان هذا تكراراً لما مضى في الفقرة الثانية، ولما مضى في الفقرة الرابعة، باعتبار أنّ وجوب الغسل المذكور في الفقرة الرابعة ليس وجوباً نفسياً، بل هو مقدّمة لصحّة الصلاة، والعرف لا يفرّق بين فرض كون العلم الإجمالي ثابتاً قبل الصلاة وكونه عارضاً في أثناء الصلاة.

2 ـ أنّ الظاهر من قوله: «وإن لم تشكّ» نفي أصل الشكّ، كما أنّ الظاهر ـ أيضاً ـ من قوله: «إن شككت» بغضّ النظر عن كلمة(في موضع منه) التي قد تدّعى قرينيته على إرادة العلم الإجمالي ـ وسوف يأتي الكلام فيه ـ هو إثبات أصل الشكّ.

3 ـ وهو العمدة، أنّ الظاهر من قوله: «ثم رأيته» دخل الرؤية في البطلان، ومع فرض العلم الإجمالي تبطل الصلاة بقطع النظر عن الرؤية.

4 ـ أنّ قوله: «تنقض الصلاة» قد يستفاد منه أنّه كان للصلاة نوع استحكام، فالآن تنقضها، ومع فرض العلم الإجمالي كانت الصلاة باطلة من قبل، ولم يكن لها أيّ استحكام.

وهذا المؤيّد الأخير غير صحيح؛ لإنّه لو حملنا العبارة على الشكّ البدوي يقال أيضاً: إنّ الصلاة بطلت قبل أن ينقضها هو ولو آناً مّا، باعتبار أنّه بمجرد أن حصل له العلم بأنّه صلّى في ثوب نجس بطلت صلاته فقد انتفى استحكامها، فما معنى قوله: «تنقض الصلاة»؟! إذن فالمقصود من قوله: «تنقض الصلاة» هو رفع اليد عن الصلاة، ولا ربط له بفرض الاستحكام.

وأمّا مؤيّدات الاحتمال الثاني فأمران:

1 ـ أنّه إن كان المقصود الشكّ البدوي كانت كلمة(في موضع منه) زائدة، وبلا فائدة.

2 ـ أنّه إن كان المقصود الشكّ البدوي كان بالإمكان في الشقّ الأوّل أن يفرض ـ أيضاً ـ عدم العلم بأنّ النجاسة التي رآها كانت موجودة من قبل، فلماذا ذكر الإمام(عليه السلام)هذا الفرض في الشقّ الثاني فقط؟!

والتحقيق: أنّ هذين المؤيدين غير صحيحين:

أمّا الأوّل؛ فلأنّه ليست كلمة(في موضع منه) مناسبة لفرض العلم الإجمالي، فإنّ المناسب لفرض العلم الإجمالي إنّما هو أن يأتي بكلمة(الموضع) معرفةً بأن يقول مثلاً:(إن شككت في

64

الموضع منه) أو (في موضع النجاسة)، فكأنّ أصل وجود موضع للنجاسة معهود وقد شكّ في الموضع. وأمّا مع إتيانه نكرةً، فيكون معنى الكلام: أنّه وقع الشكّ في النجاسة في موضع من مواضع الثوب، لا أنّ هنا موضعاً مفروغاً عنه للنجاسة شكّ في تعيينه، ولعلّ السرّ في ذكر الموضع في المقام أنّه إذا كان شكّ في موضع معيّن ثمّ رآى النجاسة في نفس ذلك الموضع، كان هذا أقرب إلى حصول العلم بأنّ ما رآها هي نفس ما شكّ فيها، بخلاف ما إذا شكّ في وقوع النجاسة في الثوب إجمالاً ثمّ رآى نجاسة في موضع مّا من مواضعه، إذن فلا تصبح كلمة(موضع) زائدة.

وأمّا الثاني؛ فلأنّه يحتمل أن يكون عدم ذكر الإمام(عليه السلام) لفرض الشكّ في كون النجاسة التي رآها نفس النجاسة التي شكّ فيها مسبقاً في الشقّ الأوّل بنكتة أنّ الشكّ السابق إذا كان في موضع معيّن ـ على ما ذكرناه في الجواب على المؤيّد الأوّل ـ ثمّ رآها في نفس ذلك الموضع يحصل عادة الاطمئنان بأنّها نفس ما شكّ فيها.

أضف إلى ذلك احتمال أن تكون الفقرة السادسة تتمّة للفقرة الخامسة، توضيح ذلك: أنّ زرارة قال في الفقرة الخامسة: هل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ فأجاب(عليه السلام) بالنفي، ثمّ قال في الفقرة السادسة: إن رايته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ فإن فرض أنّ هذا تتمة للسؤال السابق، كان الضمير في(رايته) راجعاً إلى نفس النجاسة التي شكّ أنّه أصابته، فيكون فرض زرارة هو فرض العلم بأنّ ما رآه هو نفس ما كان قد شكّ فيه، فأجاب الإمام(عليه السلام) بأنّه إذا كان هكذا وجبت الإعادة، ثمّ ذكر(عليه السلام) فرعاً زائداً على سؤال زرارة وهو قوله: «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً...الخ».

 

ما ادّعاه الشيخ الأعظم(قدس سره) من التعارض:

بقي في المقام شيء: وهو أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) أوقع المعارضة بين جواب الإمام(عليه السلام)على السؤال الأخير لزرارة وجوابه على السؤال الثالث، حيث إنّه يظهر من الفقرة الأخيرة أنّه إذا رآى نجاسة في ثوبه في أثناء الصلاة، وعلم أنّها كانت موجودة من قبل بطلت صلاته، ولا يكفي له أن يطهّر موضع النجاسة من حين الرؤية (وهذا الحكم يستفاد من هذه الفقرة على كلا تفسيريها، غير أنّه بدلالة منطوقيّة على تفسير، وبمفهوم التعليل على تفسير آخر)، وهذا الحكم لا يمكن الأخذ به مع فرض صحّة الصلاة إذا وقعت تماماً في اللباس النجس جهلاً ثمّ علم بذلك بعد الصلاة على ما يستفاد من الفقرة الثالثة، فإنّ كون الصلاة نصفها واقعاً في

65

الثوب النجس ليس بأسوأ حالاً من وقوع تمامها في الثوب النجس(1). وهذا بناءً على ما حملوا عليه الفقرة الثالثة من فرض أنّه بعد الصلاة حصل له العلم بالنجاسة في حال الصلاة.

وأجاب السيد الاُستاذ عن ذلك بأنّ ملاكات الأحكام غير معلومة لدينا، ولا يمكننا قياس بعضها ببعض، فلعلّ الملاك الواقعيّ كان بنحو اقتضى هذا التفصيل الغريب عن الذهن(2).

أقول: إن كان مراد الشيخ الأعظم(قدس سره) دعوى أنّه لا يتصوّر عقلاً التفصيل بين الموردين في الحديث بالحكم بالصحّة في المورد الأوّل والفساد في الثاني، أمكن أن يكون هذا الكلام جواباً له، ولكن قد يدّعى وجود التعارض بحسب الفهم العرفي بين الفقرتين، بدعوى: أنّ العرف يتعدّى في الفقرة الاُولى من المورد وهو وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس إلى فرض وقوع نصفها فيه، فيرى للفقرة إطلاقاً يدلّ على الصحّة في الفرض الثاني أيضاً، وكذلك يتعدّى في الفقرة الثانية من الفرض الثاني إلى الفرض الأوّل، ويرى لها إطلاقاً للفرض الأوّل.

وهذا المقدار من التقريب يمكن الجواب عليه بارتفاع إطلاق كل منهما بنصّ الآخر.

ولكن قد يدّعى أنّ العرف لا يتعقّل هذا التفكيك بأن يكون وقوع نصف الصلاة في الثوب الطاهر موجباً لأسوئية الحال، بحيث لا يرى لهذا التعارض جمعاً، فيحصل الإجمال لا محالة.

وهذا ـ كما ترى ـ ليس جوابه ما ذكره السيد الاُستاذ من عدم معلوميّة ملاكات الأحكام لنا(3)، بل يكون حلّه بإبراز نكتة يحتمل العرف كونها فارقة. وتوضيح الحال في


(1) راجع الرسائل: ص 331، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 52.

(3) الذي أفهمه من مصباح الاُصول هو أنّه ليس مقصود السيد الخوئي إنكار وجود قيمة لارتكازية عدم إمكان التفكيك بين فرض وقوع بعض الصلاة في النجس بالحكم ببطلانها وفرض وقوع كلّها في النجس بالحكم بصحتها وأولويّة الثاني بالبطلان من الأوّل، بل مقصوده إنكار فرض ارتكاز عرفي من هذا القبيل أساساً؛ وذلك لأنّ الحكم بالبطلان لم يكن حكماً له جذور عقلائية في ذهن العرف حتّى يقال: إنّ العرف لا يتعقّل التفكيك، أو أنّه يرى البطلان في الفرض الثاني أؤلى، بل كان حكماً تعبّدياً بحتاً، فلا معنىً لاستبعاد التفكيك، أو ارتكاز الأولويّة.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب؛ لأنّ ارتكازية عدم التفكيك في الحكم بين أمرين أو الأولويّة ليست دائماً على أساس ارتكازية نفس الحكم أو أولويّته، بل قد تكون على أساس مناسبة مّا مفترضة لدى العرف بعد فرض

66

ذلك: أنّ من صلّى في ثوب نجس ثمّ اطّلع في أثناء الصلاة في غير حالات الاشتغال بأعمال الصلاة على نجاسته، فطهّره وأكمل الصلاة، قد مضت عليه ثلاث حالات:

1 ـ حالة وقوع مقدار من الصلاة في الثوب النجس من دون علم بالنجاسة إلاّ متاخراً.

2 ـ حالة كونية للصلاة في الثوب النجس مع العلم بذلك من دون الاشتغال بعمل صلاتي.

3 ـ الإتيان بباقي الصلاة في ثوب طاهر.

أمّا الحالة الثالثة فلا يتعقّل العرف دخلها في الفرق، بأن يوجب ذلك أسوئيّة الحال وبطلان الصلاة.

وأمّا الحالة الثانية فأيضاً لا يتعقّل كونها هي المبطلة للصلاة بعد أن حكم الإمام(عليه السلام)في نفس الفقرة السادسة بصحّة الصلاة في الشقّ الثاني، أيّ: في غير فرض انكشاف كون النجاسة ثابتة من أوّل الأمر، فإنّ هذه الحالة موجودة هناك أيضاً.

قد تقول: إنّ النجاسة المعلومة في آن من آنات الكون في الصلاة في الشق الأوّل من تلك الفقرة كانت نجاسة بقائية، في حين أنّ النجاسة المعلومة في الشقّ الثاني من المحتمل كونها نجاسة حدوثية، فلعلّ هذا الفرق هو الفارق بأن يكون المبطل للصلاة هو العلم في آن من الآنات الكونية للصلاة بالنجاسة البقائية، لا بمطلق النجاسة ولو الحدوثية.

ولكن إن لم نقل: إنّ هذا بنفسه تفكيك غير عرفي وإنّ العرف لا يحتمل دخل حدوثية وبقائية النجاسة في الصحّة والبطلان، قلنا: إنّ هذا خلاف ظاهر تعليل الإمام(عليه السلام) لصحّة الصلاة في الشقّ الثاني باستصحاب عدم النجاسة إلى حين الرؤية؛ إذ لو كان المبطل هو الوجود البقائي للنجاسة لا ثبوت النجاسة من أوّل الأمر، لكان استصحاب عدم النجاسة بذاته غير مصحّح للصلاة، وإنّما الذي يصحّح الصلاة هو لازمه وهو عدم كون النجاسة الفعلية بقائية.

 


ثبوت الحكم تعبداً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فصحيح أنّ أصل بطلان الصلاة بوقوع بعضها في النجس ليس أمراً ارتكازياً أو عقلائياً، بل هو أمر تعبّدي، لكن الذهن العقلائي العرفي يستبعد بعد فرض ثبوت هذا الحكم ـ ولو تعبداً ـ عدم ثبوته في فرض وقوعها تماماً في النجس؛ لأنّه يرى أنّ مناسبة هذا الحكم ـ لو كان ـ تكمن في قذارة مّا وقعت فيها الصلاة التى هي معراج المؤمن الموجودة في الفرض الثاني بشكل أقوى.

وبكلمة اُخرى: أنّ مبطليّة وقوع جزء من العمل الصلاتي في النجس وإن لم تكن ارتكازية، لكن عدم مبطلية وقوع الجزء الآخر منه في الطاهر أو عدم مصحّحيّة وقوع الجزء الآخر منه ـ أيضاً ـ في النجس ارتكازي.

67

فإن قلت: لا بأس بذلك، ولتكن نفس هذه الرواية عندئذ دليلاً على حجّيّة الاستصحاب المثبت للوازم.

قلت: إنّ ظاهر تعليل الصحّة باستصحاب عدم النجاسة هو أنّ المصحّح للصلاة نفس عدم النجاسة السابقة، لا ما يلزم من ذلك من عدم كون النجاسة الفعلية بقائية.

وعليه، فالحالة الفارقة في المقام إنّما هي الحالة الاُولى، وهي وقوع القسم الأوّل من الصلاة في الثوب النجس، وإنّما كان ذلك مبطلاً للصلاة لحصول العلم بالنجاسة في أثناء الصلاة. وهذا بخلاف فرضيّة الفقرة الثالثة للحديث، فإنّ النجاسة لم يعلم بها إلى أن انتهى من الصلاة، وكون هذا فارقاً ليس على خلاف ارتكاز عرفي.

والحاصل: لو كنّا وإطلاق أدلّة ما نعيّة النجاسة لكنّا نقول بما نعيّتها مطلقاً، لكنّنا نخرج عن هذا الإطلاق بمقتضى هذا الحديث بناءً على تفسيرهم للفقرة الثالثة، وبمقتضى أحاديث اُخرى دلّت على صحّة الصلاة في الثوب النجس مع الجهل، فنقول: إنّ هنا قيداً لموضوع المانعيّة، وهو أن تصبح النجاسة معلومة في الصلاة ولو بوجودها البقائي فيها، أو تتنجّز بأيّ منجّز آخر غير العلم كالبيّنة، وحيث إنّ هذا القيد لم يكن حاصلاً في فرضيّة الفقرة الثالثة حكم الإمام(عليه السلام) بالصحّة، وحيث إنّه كان حاصلاً في فرضية الفقرة السادسة فصّل الإمام(عليه السلام) بين ما إذا علم بأنّ النجاسة كانت ثابتة من أوّل الأمر وما إذا شكّ في ذلك، فإن علم بذلك بطلت الصلاة، وإن شكّ في ذلك جرى استصحاب عدم النجاسة، وحكم بصحة الصلاة.

وأمّا كون هذه صحّة واقعيّة أو ظاهريّة؟ فإن قلنا: إنّ قيد المانعية هو تنجّز النجاسة ولو بوجودها البقائي، كانت الصحّة ظاهرية، وإن قلنا: إنّه هو تنجّز نفس القطعة المبطلة من النجاسة ولو كان تنجزها متاخّراً عنها زماناً، فالاستصحاب هنا رافع لهذا التنجز، صحّت الصلاة واقعاً. والظاهر هو الأوّل؛ لأنّ ظاهر استدلاله(عليه السلام) بالاستصحاب الذي هو حكم ظاهري هو الاستدلال به بما هو حكم ظاهري ينجّز الواقع ويعذّر عنه.

 

كيفية الاستدلال بالرواية:

وبعد هذا كلّه نشرع في الكلام في أصل ما هو المقصود إثباته من هذا الحديث وهو الاستصحاب الذي يستفاد من الفقرة الثالثة والسادسة.

ولنبدأ أوّلاً بالكلام في الفقرة الثالثة، واليك نصّ السؤال والجواب: (فإن ظننت أنّه قد

68

أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، فصلّيت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً).

ولا يخفى: أنّه بناءً على استفادة الاستصحاب من هذا الحديث نستفيده بنحو الكبرى الكلّيّة لا بنحو يختصّ بمورد الحديث، فإنّ الوجوه التي مضت للتعميم في الصحيحة الاُولى تاتي هنا، لا سيّما أنّ كلام الإمام(عليه السلام) هنا أظهر في كونه بصدد التعليل، حيث ذكر كبرى الاستصحاب بعد سؤال السائل عن علّة الحكم، فتكون الوجوه التي كانت مبنيّة على استظهار العلّية أقوى وأظهر في هذا الحديث منها في ذاك الحديث.

ومحتملات الرواية أمران: أحدهما: الاستصحاب، والثاني: قاعدة اليقين. والمتعيّن هو الأوّل.

توضيح ذلك: أنّ المفروض في الإمام(عليه السلام) أنّه عند بيانه للأحكام يتكلّم كإنسان متعارف، ولا يعمل علم الغيب في ذلك المقام، وعليه فجواب الإمام(عليه السلام) في هذه الفقرة ينبغي أن يكون على أساس ما يستفاد من سؤال زرارة فيها، لا على أساس علم الإمام بالغيب بما في نفس زرارة، كما هو واضح، ومن هنا يظهر أنّ تطبيق كلام الإمام على الاستصحاب صحيح، وتطبيقه على قاعدة اليقين غير صحيح، والوجه في ذلك: أنّ أركان الاستصحاب مفروضة في كلام السائل، وأركان قاعدة اليقين غير مفروضة في كلامه، ولعلّها كانت مفروضة في مقصوده، لكن المفروض أنّ الإمام(عليه السلام) لا يعمل علم الغيب في مقام بيان الأحكام:

أمّا أركان الاستصحاب فهي اليقين السابق والشكّ اللاحق: أمّا اليقين السابق فيستفاد من قوله: «ظننت أنّه قد أصابه» الظاهر في أنّه كان قبل ذلك عالماً بالطهارة، بل قد لا يكون من المعقول عرفاً عدم اليقين بالطهارة حدوثاً بحيث كان زرارة شاكّاً في الطهارة منذ خلق الثوب. وأمّا الشكّ اللاحق فهو مفروض على كلّ تقدير، ولذا يطبّق الإمام(عليه السلام) في المقام قاعدة من قواعد الشكّ.

وأمّا أركان قاعدة اليقين فهي اليقين السابق مع الشكّ الساري، وهذا لا ينطبق في المقام إلاّ إذا فرض أمران: أحدهما: أنّه كان في حال الصلاة عالماً بطهارة ثوبه، بأن كان فحصه وعدم وجدانه مؤدّياً الى علمه بالعدم. وثانيهما: أنّه بعد أن رآى النجاسة في ثوبه بعد الصلاة لم يحصل له العلم بأنّها نفس النجاسة التي فحص عنها، وهذا الأمر الثاني وإن كان هو الظاهر من قوله: «رأيت فيه» حيث لم يقل: (رايته فيه) ممّا يظهر أنّه علم بأصل النجاسة لا بكونها

69

النجاسة السابقة، لكن الأمر الأوّل لا يظهر من قوله: «نظرت فلم أرَ شيئاً» فإنّه لا يستفاد من ذلك حصول العلم له بالفحص بعدم النجاسة، وذلك لا لأنّ مجرّد الفحص وعدم الوجدان لا يكشف عن عدم الوجود، وأنّ عدم الوجدان أعمّ منه، فإنّ تطبيق قاعدة أعمّية عدم الوجدان من عدم الوجود في المقام مبتن على التدقيق في حساب الاحتمالات، والإنسان الاعتيادي كثيراً مّا يحصل له القطع أو الاطمئنان بالطهارة بواسطة الفحص وعدم الظفر، باعتبار غلبة كشف عدم الوجدان في أمثال هذه الاُمور الحسّيّة عن عدم الوجود، فهذه العبارة تصلح لأن تكون مُفهِمة لليقين بالطهارة وقرينة عليه فيما لو اعتمد المتكلم على الغلبة المذكورة. ويؤيّد هذا ما ذكره الإمام(عليه السلام) في جواب السؤال الخامس، حيث سأل زرارة: «هل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك»، ممّا يدلّ على أنّه(عليه السلام) فهم من النظر والفحص حصول الجزم واليقين.

بل النكتة في عدم تماميّة استظهار الأمر الأوّل من هذه الفقرة هي أنّ مثل هذه العبارة وإن كانت صالحة للتعبير عن فرض حصول اليقين والاطمئنان لكنّها صالحة ـ أيضاً ـ للتعبير عن غير ذلك، باعتبار أنّه ليس دائماً يحصل للإنسان بهذا الفحص العلم بالعدم، بل كثيراً مّا لا يحصل ـ أيضاً ـ العلم بذلك، وذلك إذا لم يعتمد الفاحص على تلك الغلبة المذكورة، فليست العبارة ظاهرة في حصول الجزم والاطمئنان ما لم يعلم أنّ السائل اعتمد على الغلبة المذكورة، فتكون مجملة من هذه الناحية، ففهم حصول العلم للسائل بالعدم يتوقّف على إعمال الغيب في المقام، والمفروض خلافه. وعليه، فيتعيّن كون الفقرة ناظرة إلى الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

وبعد هذا يقع الكلام في أنّ ما ذكر في الحديث من الاستصحاب هل هو بلحاظ حال الصلاة أو بلحاظ ما بعد الصلاة، أي: أنّ المقصود من الشكّ الذي لا ينبغي نقض اليقين به هل هو الشكّ في حال الصلاة الذي ينسجم مع فرض حصول العلم بعد الصلاة بوقوعها مع النجاسة، أو الشكّ بعد الصلاة في ثبوت النجاسة حال الصلاة؛ لاحتمال طروّ النجاسة بعدها؟ الصحيح هو الثاني؛ وذلك لما عرفت من أنّ قوله: «نظرت فلم أرَ شيئاً» مجمل من ناحية فرض كونه عالماً بالعدم بواسطة هذا الفحص وكونه شاكّاً، فكما أنّ حمل العبارة على فرض العلم بالعدم يحتاج إلى إعمال العلم بالغيب كما مضى،كذلك حملها على الشكّ يحتاج إلى إعمال العلم بالغيب، فلو حملنا الحديث على الاستصحاب في حال الصلاة لزم عدم اقتناص

70

الركن الثاني للاستصحاب وهو الشك حال الصلاة من كلام السائل، وهذا بخلاف ما لو حملناه على الاستصحاب فيما بعد الصلاة، فإنّ الشكّ بعد الصلاة مقتنص من قوله: «رأيت فيه» حيث لم يقل: «رأيته فيه» كما صنعه في بعض الفقرات الاُخرى، ممّا يظهر أنّه علم بأصل النجاسة فقط لا بسبقها. إذن فالرواية ظاهرة في الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة(1).

ولا يوجد شيء في مقابل هذا الاستظهار عدا القول بأنّ زرارة لو كان مفروضه هو الشكّ في النجاسة في حال الصلاة وعدم العلم بذلك حتّى بعد الصلاة، لم يكن وجه لاستغرابه من صحّة الصلاة وسؤاله للإمام عن علّة الحكم؛ إذ من البعيد جدّاً ـ بلحاظ جلالة مقامه، ورفعة شأنه في اطلاعه على الأحكام والقواعد ـ أنّه لم يكن يعلم بأنّ الحكم عند الشكّ هو الصحّة لأجل الاستصحاب، فيسأل بل يستغرب حينما يأتي الجواب بالصحّة، ويسأل عن علّة ذلك، وهذا بخلاف ما لو حمل على فرض العلم بعد الصلاة بالنجاسة حال الصلاة، فإنّه ـ عندئذ ـ يكون سؤاله عن الحكم واستغرابه الصحّة في محلّه.

ولكنّ التحقيق: أنّ الذي يحدس من مجموع هذه الرواية أنّ زرارة ارتكز في ذهنه ـ ولو بلحاظ سؤاله لفرض النسيان وفرض العلم الإجمالي وإجابة الإمام(عليه السلام) فيهما بالبطلان ـ أنّ النجاسة لها مانعيّة واقعيّة، ومبنيّاً على ذلك ارتكز في ذهنه أنّه لا بدّ للدخول في الصلاة من تحصيل أمارة عرفيّة مثلاً على نفي هذا المانع الواقعيّ، حتّى يكون معتمداً على طريقة


(1) لا يخفى: أنّه لو بنينا على صحّة الصلاة واقعاً في النجس عن جهل فقد يقال: إنّ تعليل صحّة الصلاة بالاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة مع فرض كفاية ما كان له في حال الصلاة من اليقين بالطهارة أو استصحاب الطهارة بعيد؛ إذ لو كان قد علم بعد الصلاة بوقوع الصلاة في النجاسة لكانت صلاته صحيحة؛ لما كانت لديه في حال الصلاة من طهارة خيالية أو استصحابية، فلماذا تعلّل صحّة الصلاة بالاستصحاب الجاري بلحاظ ما بعد الصلاة؟

ولكن قد يقال بالمقابل: إنّ المصحّح للصلاة هو الجامع بين إحراز الطهارة أو عدم النجاسة في داخل الصلاة ولو خياليّاً أو ظاهريّاً، وإحراز ذلك بعد الصلاة على فرق بينهما، وهو أنّ الأوّل لو انكشف خلافه بعد الصلاة لم يضرّ ذلك بالحكم بالصحّة على ما هو المستفاد من بعض الروايات من صحّة الصلاة لدى الجهل بالنجاسة، في حين أنّ الثاني لو انكشف خلافه بطلت الصلاة؛ إذ لا دليل على كفاية إحراز خيالي أو ظاهري بعد الصلاة آناً مّا، ومع انكشاف الخلاف فإذا كان المصحّح للصلاة هو الجامع بين الأمرين كان من حقّ الإمام(عليه السلام) أن يعلّل صحّة الصلاة بأيّ فرد شاء من فردي هذا الجامع، وقد علّلها بالفرد الثاني.

أو يقال: إنّ المصحّح للصلاة هو الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية أو الخيالية حين الصلاة، وإنّ الفرد الأوّل وهو الطهارة الواقعية أكمل الفردين، فالإمام(عليه السلام) تمسّك لإثبات صحّة الصلاة بإثبات الفرد الأوّل إثباتاً ظاهرياً بعد الصلاة.

71

عقلائية في مقام إحراز القيد الدخيل في صحّة الصلاة، ولهذا فرض في الفقرة الثالثة أنّه حينما ظنّ بالإصابة فحص ولم يرَ شيئاً، فدخل في الصلاة، أي: أنّه إنّما صلّى على أساس هذه الأمارة العرفية، وهي الفحص وعدم الظفر. وعليه انفتح باب السؤال عن أنّه لو فرض أنّ هذه الأمارة سقطت عن الأماريّة بعد الصلاة، بأن رأى النجاسة بعد الصلاة فاحتمل كونها نفس ما كان يفحص عنه، فإنّه في مثل هذا الفرض يسقط عادة الفحص السابق عن الأمارية، فماذا يصنع؟ هل تصحّ الصلاة مع أنّ الأمارة التي كان المركوز في الذهن أنّه لا بدّ منها للدخول في الصلاة سقطت عن الأماريّة بعد الصلاة، أو لا؟ فسأل عن ذلك، فأجاب الإمام(عليه السلام) بأنّ الصلاة صحيحة؛ لأنّ ما كان هو الوجه في صحّة الصلاة لم يكن في الحقيقة هو الفحص الزائل أماريّته، بل هو الاستصحاب. وأمّا مسألة كون زرارة عارفاً بالأحكام والقواعد، فكيف يعقل أن يسأل بل يستغرب الحكم بالصحّة مع فرض الشكّ وعدم العلم حتّى بعد الصلاة؟ فجوابها: أنّ زرارة بالتدريج أصبح عارفاً بالأحكام والقواعد، ولا ندري تأريخ سؤاله للإمام(عليه السلام) عن هذه المسألة، وأنّه هل وقع بعد صيرورته عارفاً بالأحكام وعالماً جليلاً، أو قبلها. وتشهد لعدم اطّلاعه على القواعد وعدم استيعابه لأحكام من هذا القبيل عند صدور هذه الرواية جملة من أسئلته في نفس هذه الرواية، كسؤاله عن فرض الشكّ البدوي في النجاسة، وأنّه يجب الفحص أولا، مع أنّ من الواضح فقهياً عدم وجوب الفحص، وكسؤاله عن أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة موضع من ثوبه فماذا يصنع، مع وضوح أنّه لا بدّ من غسل أطراف العلم الإجمالي، وكسؤاله عن الصلاة في الثوب مع علمه إجمالاً بنجاسة موضع منه، مع وضوح بطلان هذه الصلاة، وأنّه لا يصحّ له من أوّل الأمر الدخول فيها.

وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ الظاهر من هذا الحديث هو فرض كونه شاكّاً في النجاسة وغير عالم بها حتّى بعد الصلاة.

ومن هنا يتبيّن أنّه لا موضوع للإيراد المشهور على الرواية من أنّه ليست إعادة الصلاة في المقام نقضاً لليقين بالشكّ، وإنّما هي نقض لليقين باليقين؛ لأن المفروض أنّه تيقّن بعد الصلاة بالنجاسة، فكيف علّل الإمام(عليه السلام) الصحّة وعدم الإعادة بمسألة عدم جواز نقض اليقين بالشكّ؟

نعم، بناءً على التفسير المشهور للرواية من حملها على فرض العلم بعد الصلاة بالنجاسة في حال الصلاة يكون لهذا الإشكال مجال، وعند ئذ يقع الكلام في جهات ثلاث:

72

1 ـ أنّ هذا الإشكال إن لم يمكن حلّه فهل يضّر بالاستدلال بهذه الفقرة على الاستصحاب أو لا؟

2 ـ أنّه هل يمكن حلّ هذا الإشكال أو لا؟ وما هو حلّه؟

3 ـ في تحقيق أصل المطلب، أي: كيفيّة دخل طهارة الثوب ونجاسته في صحّة الصلاة وبطلانها، وأنّه هل هذا قيد علمي أو قيد واقعي أم ماذا؟ وهل الطهارة شرط أو النجاسة مانعة؟

 

مضرّية الإشكال المشهور بالاستدلال على التفسير المشهور للرواية:

أمّا الجهة الاُولى: فقد ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية: أنّ هذا الإشكال لو لم يمكن حلّه لا يضّر باستدلالنا بالاستصحاب بهذه الفقرة؛ لأنّه ليس إشكالاً مختصّاً بفرض حملها على الاستصحاب كي يصبح قرينة على حملها على قاعدة اليقين، فإنّ المفروض أنّه قد حصل له العلم بالنجاسة، فيكون هذا نقضاً لليقين باليقين لا نقضاً لليقين بالشكّ، سواءً فرض الشكّ سارياً أو غير سار(1).

وكأنّه(قدس سره) يرى أنّ الإشكال في المقام يكون على مستوى الفهم العرفي، ويحتمل عدم وروده واقعاً.

أقول هذا كي لا يلزم من كلامه الأخذ بما يرد على تطبيقه الإشكال قطعاً سواءً حملناه على الاستصحاب أو على القاعدة، والتسليم بورود الإشكال على ما يفترض كونه كلاماً للإمام(عليه السلام).

وعلى أيّة حال، فهذا الكلام بهذا المقدار قد اعترض عليه المعلّقون كالمحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(2)، ونعم ماصنعوا، فإنّ الذي يستفيد قاعدة اليقين من الرواية لا يفرض أنّها ناظرة إلى قاعدة اليقين بالنسبة لحال الصلاة ـ كما كان يمكن فرض ذلك بناءً على الاستصحاب ـ، فإنّ شكّه في حال الصلاة لم يكن شكّاً سارياً كما هو واضح، بل يفرض أنّها ناظرة إلى ما بعد الصلاة، أي: أنّه يحمل قوله: «رأيت فيه» على فرض العلم بأصل النجاسة والشكّ في تقدّمها، فحمل الرواية على قاعدة اليقين ملازم لحمل قوله: «رأيت فيه» على


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 294، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 81 بحسب طبعة آل البيت.

73

فرض الشكّ في سبق النجاسة.

نعم، للمحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يقول: إنّ الذي أوجب في المقام دفع الإشكال ليس هو في الحقيقة حمل الرواية على قاعدة اليقين، بل ما يلزمه من حمل قوله: «رأيت فيه» على فرض الشكّ في تقدّم النجاسة، وحمل الرواية على قاعدة اليقين وإن لم يمكن تفكيكه عن حمل جملة: (رأيت فيه) على فرض الشكّ في سبق النجاسة، لكن العكس ممكن. وعليه، فغاية ما يصنعه الإشكال في المقام ـ إن لم نتمكّن من حلّه ـ هو أنّه يوجب الاضطرار إلى رفع اليد عن ظهور كلمة: (رأيت فيه) في العلم بسبق النجاسة، وهذا ما لا بدّ منه حتى على فرض حمل الرواية على قاعدة اليقين، فليس هذا موجباً لصرف الرواية عن الاستصحاب إلى قاعدة اليقين.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّه لا بدّ أن نرى ما هو الوجه في استفادة الاستصحاب من هذه الفقرة؟ فإن كان الوجه في استفادة ذلك نفس ظهور قوله: «رأيت فيه» في العلم بسبق النجاسة، حيث إنّه مع العلم بسبق النجاسة يستحيل انطباق قاعدة اليقين على المقام، ولكن يمكن استفادة الاستصحاب في المقام ولو بلحاظ حال الصلاة، كان العجز عن حلّ هذا الإشكال مخلاًّ بالاستدلال؛ لأنّ هذا إشكال على نفس هذا الظهور، ولو رفعنا اليد عن هذا الظهور كانت نسبة الرواية الى الأستصحاب والقاعدة على حدّ سواء، وتكون مجملة من هذه الناحية. وأمّا إذا كان الوجه في استفادة الاستصحاب شيئاً آخر من قبيل ما مضى منّا من أنّ أركان الاستصحاب مستفادة من كلام السائل، وأركان قاعدة اليقين غير مستفادة منه، فلا بدّ من حمل الرواية على الاستصحاب، فقد يقال: إنّ عدم حلّ هذا الإشكال لا يضرّ بالاستدلال؛ لأنّ هذا الإشكال مصبّه هو ظهور غير مرتبط باستفادة الاستصحاب، ويستفاد الاستصحاب من الحديث حتى بغضّ النظر عن هذا الظهور، وحمله على خلاف ظاهره من فرض عدم العلم بسبق النجاسة.

إلاّ أنّ الصحيح هو: أنّ هذا الإشكال ـ لو عجزنا عن حلّه ـ يضرّ بالاستدلال حتّى مع فرض كون نكتة استفادة الاستصحاب غير الظهور الذي انصبّ عليه هذا الإشكال؛ والوجه في ذلك هو: أنّ هذا الإشكال ليست غاية مفعوله رفع اليد عن ذلك الظهور حتّى يقال: إنّ هذا لا يضرّ بالاستدلال؛ لعدم ارتباطه بذلك الظهور حسب الفرض، بل هذا الإشكال يولّد ـ لا محالة ـ الظنّ بوقوع سقط أو خلل في الرواية، فيكون إخبار الراوي وشهادته على أنّ هذا المقدار هو الصادر من الإمام(عليه السلام) بدون أيّ خلل موهوناً، باعتبار

74

اقترانه بأمارة عقلائية توجب ذلك، وهي التهافت وعدم الانسجام بين الجواب والسؤال، وفي مثل ذلك يخرج الإخبار عن تحت دليل الحجّيّة؛ إذ لا يكفي عندنا وثاقة الراوي، بل لا بدّ من موثوقيّة الرواية على ما نقّحناه في بعض أبحاثنا(1) من أنّ وثاقة الراوي لوحظت بنحو الطريقية والآلية نحو موثوقية الخبر، ونحن لا ندري هل الحديث بعد فرض إصلاح ذلك الخلل يبقى ظاهراً في الاستصحاب أو لا؟ إذن هذا الإشكال على تقدير العجز عن جوابه يسقط الحديث عن قابليّة الاستدلال به على المقصود.

لا يقال: إنّ غاية ما يفرض هنا هو وجود خلل بالنسبة إلى ظهور الكلام في العلم بسبق النجاسة. وأمّا ظهوره في الاستصحاب فهو باق على حاله من كونه مجرىً لأصالة صحّة شهادة الراوي بعدم الخلل فيه، فإنّ شهادة الراوي بعدم الخلل تنحلّ بعدد الظهورات في المقام، ولا يمكن فرض العكس، بأن يكون الخلل في خصوص الظهور الاستصحابي؛ لأنّ الإشكال وارد حتّى على فرض حمل الحديث على القاعدة.

فإنّه يقال: إنّ هذا الكلام غير صحيح، لا لأنّه كمايحتمل كون الخلل في ظهور الكلام في العلم بسبق النجاسة دون غيره كذلك يحتمل كونه في دلالة الكلام على استفادة قاعدة في فرض الشك راساً، سواء كانت هي الاستصحاب أو قاعدة اليقين، كي يقال في الجواب: إنّ كون الرواية في مقام بيان قاعدة ظاهريّة لا يمكن إنكاره، وليست قابلة لغير هذا الفرض ولو بضمّها إلى قرينة تغيّرُ مفادها؛ بل لأنّ العرف غير مساعد على هذا الانحلال في شهادة الراوي والأخذ بإحدى الشهادات دون الاُخرى، فمهما كان عندنا ظهوران وحصل العلم بخلل في أحدهما المعيّن، واحتملنا أنّ ذاك الخلل لو صحّح بإرجاع ما سقط مثلاً كان هذا الساقط من طرف هذا الظهور مؤثّراً في الظهور الآخر أيضاً، ومع وجوده ينتفي كلا


(1) قد يقال: حتّى لو اكتفينا بوثاقة الراوي لا يمكننا هنا الأخذ بشهادة الراوي؛ وذلك لأنّ أصالة صحّة شهادته معارضة بأصالة الظهور؛ إذ لو صحّت شهادته لزم من ذلك ارتكاب مخالفة الظاهر في المقام؛ لأنّ قوله: «رأيت فيه» ظاهر حسب الفرض في العلم بسبق النجاسة، فإجابة الإمام(عليه السلام) بجواب لا ينسجم إلاّ مع الشكّ في سبق النجاسة إنّما يكون على أساس إعمال الغيب والاطّلاع على أنّ مراده كان ذلك، وهذا خلاف الظاهر، وبعد التساقط والتعارض لا يبقى عندنا دليل على صحّة شهادة الراوي، وبالتالي يبقى احتمال الخلل بلا مؤمّن، ومن المحتمل كون ذلك الخلل دخيلاً فيما هو المقصود، فيسقط الحديث عن الاستدلال به.

وذكر(رحمه الله) في مقام التعليق على هذا الوجه: أنّه إن حصل لنا العلم والاطمئنان بأنّه(عليه السلام) لم يعمل علم الغيب في المقام فهنا نجزم بالخلل، لا أنّه يحصل تعارض بين الأصلين، وإلاّ فأصالة عدم الخلل مقدّمة على أصالة الظهور؛ لأنّ العقلاء يرون حجّيّة الظهور بعد الأخذ بكلّ ما في المقام من قرينة أو معارض ونحو ذلك بعين الاعتبار.

75

الظهورين، فهنا لا يأخذ العرف بشيء من الظهورين. وبكلمة اُخرى: إنّ الراوي لا يشهد بعدم عنوان القرينة على الخلاف حتّى يقال: إنّ هنا عنوانين للقرينيّة، فتصحّ شهادته بلحاظ أحدهما وتبطل بلحاظ الآخر، وإنما يشهد بعدم واقع القرينة، فإذا بطلت هذه الشهادة، واحتملنا كون ذلك الواقع قرينة لصرف ظهور آخر أيضاً، اختلّ ـ لا محالة ـ الأخذ بذلك الظهور الآخر.

 

إمكان حلّ الإشكال المشهور:

وأمّا الجهة الثانية، فقد اشتهر جوابان رئيسان عن هذا الإشكال، أعني: إشكال أنّ الإعادة في المقام نقض لليقين باليقين:

1 ـ أنّ جوابه(عليه السلام) مبتن على كفاية الطهارة الظاهرية في صحّة الصلاة، بمعنى: أنّ الشرط الواقعي مثلاً هو الأعمّ من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية في حال الصلاة، فانكشاف الخلاف لا يضرّ بصحّة الصلاة، فبالرغم من حصول العلم بعد الصلاة بالنجاسة في حال الصلاة لا بأس بتعليل عدم الإعادة بالاستصحاب.

2 ـ أنّ جوابَه(عليه السلام) مبتن على إجزاء الأوامر الظاهرية وعدم لزوم الإعادة بعد انكشاف الخلاف، فأيضاً لا بأس بالتعليل بالاستصحاب بالرغم من انكشاف الخلاف، لعدم مضرّيّة ذلك بعد فرض إجزاء الأمر الظاهري.

وقد اختلف موقف المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية من هذين الجوابين، فسلّم الجواب الأوّل من دون أيّ دغدغة وإشكال، ولكنّه استشكل في الجواب الثاني وإن كان ذكر له بعد ذلك توجيهاً(1).

وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في المقام: أنّه لا وجه للتفصيل بين الجوابين، بل لا بدّ إمّا من قبولهما معاً، أو ردّهما معاً؛ فإنّ محصّل كلا الجوابين هو: أنّ الإمام(عليه السلام) بيّن في مقام تعليل صحّة الصلاة الاستصحاب، وهذا التعليل يصحّ بفرض كبرىً محذوفة في المقام وهي كبرى كفاية الطهارة الاستصحابيّة والظاهريّة واقعاً، أو كبرى إجزاء الطهارة الاستصحابية والظاهرية من باب إجزاء الحكم الظاهري، فإن لم نستسغ في المقام وجود كبرىً محذوفة لم يصحّ كلا الجوابين، وإن استسغناه صحّ كلاهما، ونحن نستسيغه، فإنّ حذف الكبرى هو الشيء


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 290 ـ 293، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

76

المتعارف في تمام موارد التعليل، كما يقال: لا تشرب الخمر لأنّه مسكر. فإنّ هنا كبرىً محذوفة، أي: وكلّ مسكر حرام(1).

وذكر السيد الاُستاذ في المقام: أنّ هذين الجوابين في الحقيقة هما جواب واحد، وليسا جوابين حتّى يقال بصحّة التفصيل بينهما بقبول أحدهما دون الآخر، أو عدم صحّته، فإنّه لا معنى لإجزاء الحكم الظاهري إلاّ بتوسعة دائرة الواقع، ومن دون ذلك لا يتعقل الإجزاء، فمعنى كفاية الطهارة الظاهرية في المقام ليس على أيّ حال إلاّ توسيع دائرة شرط الصحّة، وهو الطهارة، فلا يوجد أيّ فرق بين الجوابين(2).

أقول: الفرق بين الجوابين هو: أنّ معنى توسعة دائرة الشرط الواقعي هي سعة الواجب، بمعنى أنّه ليس الواجب هو خصوص الصلاة مع الطهارة الواقعية، بل الواجب هو الصلاة مع الجامع بين الطهارتين، أو قل: الجامع بين الصلاة مع الطهارة الواقعيّة والصلاة مع الطهارة الظاهريّة؛ لكون الصلاة مع الطهارة الظاهريّة واجدة للملاك تماماً كالصلاة مع الطهارة الواقعية، ومعنى إجزاء الأمر الظاهري ليس هو توسعة دائرة الواجب باعتبار عدم اختصاص الملاك بخصوص الطهارة الواقعيّة، بل معناه تضييق دائرة الوجوب، وكون وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مقيّداً بعدم الصلاة مع الطهارة الظاهريّة باعتبار كون الصلاة مع الطهارة الظاهرية مفوّتة للملاك، ومانعة عن إمكان تحصيل الملاك بعدها بالإتيان بصلاة أُخرى مع الطهارة الواقعية. وبهذا البيان يظهر مدى الفرق الكبير بين الجوابين. هذا ما يتعلّق بكلام السيّد الاُستاذ.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من عدم إمكان التفصيل بين الوجهين في الصحّة والبطلان؛ لأنّنا إن لم نستسغ وجود كبرىً محذوفة بطل كلا الوجهين، وإن استسغناه صحّ كلا الوجهين، فبإمكان المحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يفصّل بين الوجهين إذا أخذ بالشقّ الأوّل، وهو عدم استساغة الحذف ـ كما هو الصحيح بالمعنى الذي سوف نبيّن إن شاء الله ـ، وهذا التفصيل يتّجه بناءً على المبنى الذي اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في بحث الإجزاء، حيث ذكر هناك: أنّ مثل قاعدة الطهارة والحلّية (وقال: بل واستصحابهما في وجه قويّ) يدلّ على


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 350 ـ 351 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 366.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 57 ـ 58.

77

توسعة دائرة الشرط الواقعي(1).

فبناءً على هذا المبنى نقول: إنّ الجواب الأوّل ـ وهو الجواب بتوسعة الشرط الواقعي ـ صحيح، ولا يلزم من ذلك حذف الكبرى، وهي هذه التوسعة؛ لأنّ هذه التوسعة مستفادة من نفس دليل الاستصحاب، أي: من نفس هذه الفقرة، وهي قوله: «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» والجواب الثاني غير صحيح؛ لأنّه(قدس سره) لا يقول باستفادة إجزاء الأمر الظاهري من نفس دليل الاستصحاب، فيقع الاحتياج إلى حذف الكبرى.

بقي الكلام في أصل صحّة هذين الوجهين في المقام وعدمها، والواقع: أنّ حمل الحديث على مسألة إجزاء الأمر الظاهري أو توسعة دائرة الشرط الواقعي كتوجيه للحديث أمر معقول، لكنّه ليس هذا تفسيراً موافقاً لظاهر الحديث، بل يبقى بعد ذلك التهافت وعدم الانسجام بين ظاهر السؤال في نفسه وظاهر الجواب في نفسه ثابتاً على حاله بنحو يحصل الظنّ بحصول خلل في الحديث، فيسقط عن قابلية الاستدلال به؛ وذلك لأنّ ظاهر الجواب في نفسه لا ينسجم مع هذين الوجهين، ونبيّن ذلك ضمن وجوه:

1 ـ أنّ ظاهر الاستدلال بحكم ظاهريّ ـ كما وقع في الحديث ـ إنّما هو الاستدلال به بما هو حكم ظاهري وطريق الى الواقع، لا بما هو موضوع لحكم واقعي(2)، وهذان الوجهان مفادهما هو النظر إلى الطهارة الظاهريّة بما هي موضوع لحكم واقعيّ من الإجزاء أو سعة دائرة الشرط، ومفيدة للصحّة الواقعيّة للصلاة.

2 ـ أنّه في هذا الحديث ذكر أوّلاً الحكم بعدم الإعادة، ثمّ علّل هذا الحكم بحكم آخر،


(1) راجع الكفاية: ج 1، ص 133، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) قد يقال: إنّنا لو أردنا التحفّظ على ما يفهم من روايات اُخرى وعليه الفتوى من صحّة صلاة من صلّى في النجس جاهلاً وإن انكشف له واقع الحال بعد الصلاة، فلا بدّ لنا من مخالفة هذا الظهور حتّى لو لم نقبل بما فهمه المشهور من حمل هذه الصحيحة على الاستصحاب في حال الصلاة، وقبلنا بما اختاره اُستاذنا من حملها على الاستصحاب بعد الصلاة، فان الصحّة

ـ على أيّ حال ـ واقعيّة؛ لأنّ الصلاة في النجس كانت عن جهل. نعم، قد يقال: إنّ مخالفة الظهور هذه إنّما كانت نتيجة دليل منفصل، وهي الروايات الاُخرى الدالّة على الصحّة الواقعيّة، فهذا لا يؤدّي إلى التهافت الداخلي في مفاد هذه الصحيحة الموجب لسقوط الاستدلال بها على الاستصحاب.

وقد يقال: لا مانع من تمسّك الإمام(عليه السلام) بالصحّة الظاهرية في المقام رغم ثبوت الصحّة الواقعية، وذلك بدعوى: أنّ مصحّح الصلاة واقعاً وإن كان هو الجامع بين الطهارة الواقعية والخيالية أو الظاهرية، إلاّ أنّ الفرد الأوّل هو أكمل الأفراد فآثر الإمام(عليه السلام) أن يثبت لزرارة الصحّة بالمستوى الأكمل ظاهراً بدلاً عن إثبات الصحّة بالمستوى النازل واقعاً.

78

وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، ومثل هذا ينصرف بذاته بحسب الفهم العرفيّ إلى أن يكون تعليلاً لحكم أخصّ بحكم أعمّ لا تعليلاً لحكم بحكم آخر مباين وملازم له، أي: أنّه ينصرف بطبعة الأوّلي إلى أن يكون من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد؛ لأنّه يجب إكرام العالم» لا من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد لأنّه يجب إكرام عمرو» عند ما يكون وجوب إكرام عمرو مستلزماً لوجوب اكرام زيد، وعلى هذا فيلزم أن تكون الإعادة في المقام بنفسها صغرىً من صغريات نقض اليقين بالشكّ، مع أنّ الإعادة بنفسها ليست كذلك في المقام؛ لأنّه لو أعاد فهو يعيد لأجل حصول العلم له بعد الصلاة بالنجاسة. نعم، الحكم بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ يستلزم ـ بعد فرض إجزاء الحكم الظاهريّ أو توسعة الشرط الواقعيّ ـ الحكم بعدم الإعادة، فيكون من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد؛ لأنّه يجب إكرام عمرو»، وهذا خلاف الطبع الأوّلي لمثل هذا السياق.

والخلاصة: أنّه مهما ذكر حكم وعلّل بحكم، وأمكن أن يكون الحكم الثاني تعميماً للحكم الأوّل، أي: لم يكن من قبيل تعليل أمر بنهي، أو من قبيل تعليل وجوب إكرام زيد بوجوب إكرام عمرو، انعقد للكلام ظهور في أنّ المولى ليس بصدد بيان حكم جديد، وإنّما هو بصدد تعميم نفس الحكم الإوّل.

3 ـ أنّ هذين الوجهين، أعني: حمل الحديث على مسألة الإجزاء أو سعة الشرط الواقعي يستدعيان تقدير كبرىً محذوفة في المقام، وهي كبرى إجزاء الأمر الظاهريّ أو سعة الشرط الواقعيّ كما مضى ذلك في نقل كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) وما وجّهنا به تفصيل المحقّق الخراساني(قدس سره) في المقام من دعوى عدم احتياج توسعة الشرط إلى كبرىً محذوفة إنّما يتم على مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) الذي نقلناه آنفاً من استفادة التوسعة من نفس لسان دليل الأصل، وحيث إنّنا لا نقبل هذا المبنى فيبقى الاحتياج إلى كبرىً محذوفة ثابتاً على حاله. وعليه نقول: إنّ وجود كبرىً محذوفة من هذا القبيل في المقام ليس منسجماً مع البيان العرفيّ، وإنّ الحذف في نفسه خلاف الظاهر المستساغ ما لم تكن هناك نكتة عرفيّة تجعل الحذف عرفيّاً. وما مضى من المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ من دعوى: أنّ حذف الكبرى في التعليل هو الشيء المألوف دائماً في موارد التعليل كما في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» فإنّ هنا كبرىً محذوفة، وهي قولنا: «وكلّ مسكر حرام» ـ(1) في غير محلّه، فإنّه بعد أخذ المدلول السياقي


(1) كأنّ هذا المقطع مستنبط من كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) وإلاّ فلا يوجد في شيء من التقريرين النقض بمثل

79

بعين الاعتبار يرى أنّه ليس هناك شيء محذوف في مثل قولنا: (لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر). توضيح ذلك: أنّه (بناءً على صحّة ما اشتهر في لسان الأصحاب من أنّ التعليل يلغي خصوصية المورد، وأنّ تلك الخصوصيّة لا تؤخذ في نفس العلّة، وأنّ التعدّي في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» ليس لخصوص نكات مركوزة في هذا المثال من قبيل مناسبة الحكم والموضوع، بل يكون لنكتة عامّة في المقام، وهي: أنّ العلّة ـ بحسب قانون التعليل ـ تكون نفس الإسكار (لا إسكار الخمر بأن يؤخذ قيد الخمر في العلّة) نقول: إنّ الوجه في التعدّي في موارد منصوص العلّة هو أنّ العرف يفهم ـ بحسب المدلول السياقي من تصدي المولى للتعليل ـ أنّه يكون في مقام إلغاء خصوصيّة المورد، فإذا قال المولى: «لا تشرب الخمر لإسكاره، أو لأنّه مسكر؛ أو لأنّه مسكر بالتخمر» يكون تصدّي المولى في المقام لتعليل الحكم ظاهراً ـ بحسب المدلول السياقي ـ في أنّه بصدد رفض خصوصيّة المورد، وهي الخمرية، ومع رفض هذه الخصوصيّة وإسقاطها عن الحساب تتبقّى ـ لا محالة ـ خصوصيّة الإسكار المذكورة في التعليل؛ إذ لا خصوصيّة اُخرى في الكلام، فتفهم ـ لا محالة ـ حرمة كلّ مسكر بلا حاجة إلى تقدير كبرىً كلّيّة، وهي قولنا: «كل مسكر حرام».

هذا كلّه في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» وأما إذا اُريد تطبيق ما ذكرناه على ما نحن فيه، أي: على مثل قولنا: «لا تعيد للاستصحاب» فغاية ما ينتج هي إسقاط خصوصيّة المورد، ومعنى ذلك: هو عدم الإعادة في كلّ موارد الاستصحاب كما كان معنى إسقاط خصوصيّة المورد في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» هو حرمة شرب كلّ مسكر، ولكن في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» كان ينتهي بهذا كلّ شيء؛ لأنّ المسكر كان هو الموضوع بنفسه للحكم بالحرمة بلا حاجة إلى همزة وصل بينهما في المقام، فلم يبقَ أيّ نقص وحذف في الكلام. وأمّا في ما نحن فيه فليس الاستصحاب بنفسه هو الذي يحمل عليه الحكم بعدم الإعادة، وإنّما ربط هذا الحكم بالاستصحاب حسب الفرض بواسطة حكم آخر محذوف في المقام، وهو الحكم بتوسعة الشرط الواقعي أو بتضيّق الوجوب الواقعيّ بصورة عدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهريّة مثلاً. وهذه هي المؤونة الزائدة في المقام غير الموجودة في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر».

 


(لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر).

80

إن قلت: إنّ في مثل هذا المثال ـ أيضاً ـ لم يذكر ملاك ثبوت حكم الحرمة على المسكر، فلتكن نسبة توسعة الشرط الواقعيّ او تضيّق الوجوب الواقعيّ إلى ترتّب الحكم بعدم الإعادة على الاستصحاب كنسبة الملاك في مثال الخمر إلى ترتّب الحرمة على الإسكار.

قلت: الحرمة في مثال الخمر موضوعها واقعاً هو الإسكار، ولم يحذف بينهما شيء، فكلام المتكلّم تامّ؛ فإنّه ذكر أوّلاً شيئاً وهو حرمة الخمر، ثمّ ذكر تمام علّة ذلك، وهو الإسكار. نعم، لم يذكر علّة العلّة، أي: السبب في حرمة الإسكار، ولكن ليس المفروض في الكلام أن تذكر تمام العلل المتسلسلة. وأمّا في المقام فعدم الإعادة إنّما هو حكم لتوسعة الشرط أو ضيق الوجوب لا للاستصحاب، وإنّما الاستصحاب هو محقِّق لموضوع توسعة الشرط، أو ضيق الوجوب المترتّب عليه عدم الإعادة.

وبكلمة اُخرى: أنّه في مثال الخمر يكون المعلّل هو حرمة الخمر، والمعلل به هو حرمة المسكر، وليست بين المعلّل والمعلّل به واسطة محذوفة. نعم، تكون للعلّة وهي حرمة المسكر علّة اُخرى لم تذكر. وأمّا في المقام فالمعلّل هو عدم إعادة الصلاة، والمعلّل به هو الاستصحاب، ولكن الحكم المجعول من قبل المولى الذي سبّب عدم الإعادة ليس هو الحكم بعدم الإعادة عند جريان الاستصحاب، فإنّ المولى لم يحكم بذلك على الاستصحاب، وإنما الذي صنعه المولى في المقام هو توسعة الشرط أو تضييق الوجوب، وهذه الواسطة في المقام محذوفة ومقدّرة، وهو خلاف الأصل.

4 ـ أنّنا لو سلّمنا تقدير كبرىً محذوفة في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر، لأنّه مسكر» وقلنا: إنّ هذا الحذف والتقدير هناك عرفي، فإنّنا لا نسلّم كون التقدير عرفياً في ما نحن فيه. وتوضيح ذلك: أنّ عرفيّة التقدير هناك نشأت من ارتكازيّة الشكل الأوّل في أذهان العرف، فالمتكلم إذا ذكر مقدّمة واحدة وهي الصغرى، انساق ذهن العرف بطبعة إلى طلب الكبرى وتقديره في الكلام، فحينما يسمع قوله: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» يقدّر لذلك كبرىً وهي قولنا: «وكلّ مسكر حرام». وأمّا في المقام فالعرف قد واجه مقدّمتين: الاُولى: صغرى وهي قوله: «كنت على يقين من طهارتك فشككت» والثانية: كبرى وهي قوله: «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، فلا تبقى له حالة انتظاريّة، ولا ينساق ذهنه إلى تقدير كبرىً في المقام، وليس المذكور في الكلام المقدّمة الثانية فقط، وهي الاستصحاب حتّى يدّعى فرضه صغرىً لكبرىً محذوفة، بل هي بنفسها كبرىً لمقدّمة مذكورة في الكلام، فلا يفهم العرف هنا تقدير كبرىً يجعل هذه الكبرى صغرىً لها.

81

5 ـ أنّنا لو فرضنا أنّ العبارة اقتصرت على ذكر قوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، وأنّها لم تذكر المقدّمة الاُولى، فالعرف هنا ينساق بارتكازيّة الشكل الأوّل إلى تقدير مقدّمة، قلنا عند ئذ: إنّ هذه المقدّمة المحذوفة، أمرها دائر بين أن تكون صغرىً للمقدّمة المذكورة في العبارة، وذلك بأن تكون المقدّمة المحذوفة هي قوله: «كنت على يقين من طهارتك، وشككت» أو تكون كبرىً لها، وذلك بأن تكون هي قاعدة إجزاء الحكم الظاهريّ أو توسعة الشرط الواقعي، وإذا صلحت المقدّمة المذكورة في الكلام لأن تكون كبرىً ذات صغرىً محذوفة وأن تكون صغرىً ذات كبرىً محذوفة فلعلّه يقال: إنّ العرف يفرضها في كلام الشارع كبرىً لصغرىً محذوفة، باعتبار ما هو المركوز في الأذهان من أنّ وظيفة المولى هي بيان الكبريات وتشريعها، لا الصغريات وتشخيصها.

ويمكن أن يذكر في المقام وجه سادس، وهو أنّه(عليه السلام) قال: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، ولو كان مقصوده تطبيق الاستصحاب بلحاظ الزمان الماضي، وهو زمان انشغاله بالصلاة، لكان يقول: لم يكن ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك.

ويرد عليه: أنّه بما أنّ الإمام(عليه السلام) يكون بصدد بيان حكم وجعل بنحو القضية الحقيقيّة ثابت في كلّ زمان يكون بيانه بهذا اللسان الموجود في الحديث وهو قوله: «ليس ينبغي لك...» بياناً عرفيّاً لا إشكال فيه.

 

تحقيق أصل المطلب:

وأمّا الجهة الثالثة: فيتكلّم فيها في كيفية شرطيّة الطهارة أو مانعيّة النجاسة في الصلاة بعد الفراغ عن أنّه لا بدّ من ضيق في دائرة المانعية أو توسعة في دائرة الشرطية بناءً على استفادة صحّة الصلاة في الثوب النجس جهلاً من هذه الصحيحة.

بل حتّى لو لم نقبل دلالة الصحيحة على ذلك ـ كما هو كذلك على ما اخترناه من أنّ مفروض الفقرة الثالثة هو الشكّ بعد الصلاة في تقدّم النجاسة لا العلم به ـ تكفينا أخبار اُخرى دالّة على صحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة في الجملة. وعليه فلا بدّ من فرض قيد في المقام ينسجم مع هذا الحكم.

 

شرطية الطهارة ومانعية النجاسة وثمرة القول بالفرق بينهما:

ولنتكلّم أوّلاً في أصل شرطيّة الطهارة ومانعية النجاسة هل هناك فرق مضمونيّ بينهما،

82

أو لا فرق بينهما، فهما شيء واحد، فلا يبقى موضوع للحديث عن أنّه هل الطهارة شرط أو النجاسة مانعة. وعلى تقدير وجود فرق مضمونيّ بينهما هل تترتّب على هذا الفرق ثمرة أو لا؟ فإنّ هاتين النقطتين وقعتا مثاراً للشكّ والترديد من قبل المحقّقين:

فالمحقّق الإصفهاني(رحمه الله) ناقش في النقطة الاُولى، وهي وجود فرق مضموني بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة ببيان: أنّ الطهارة لو كانت ضدّاً وجودياً للنجاسة لصحّ الفرق المضمونيّ بين شرطيّة الطهارة ومانعية النجاسة الراجعة إلى شرطيّة عدم النجاسة، فإنّ شرطية عدم أحد الضدّين غير شرطية الضد الآخر، لكن الطهارة ـ في الحقيقة ـ ليست إلاّ عبارة عن عدم النجاسة، فشرطيّة الطهارة ـ أيضاً ـ معناها شرطيّة عدم النجاسة، فلا يبقى فرق مضموني بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة(1).

كما أنّ السيّد الاُستاذ ناقش في النقطة الثانية، أعني: ترتّب الثمرة بعد الاعتراف بالنقطة الاُولى، فذكر: أنّه لا توجد ثمرة فقهيّة تترتّب على كون الطهارة شرطاً أو النجاسة مانعة(2).

وقبل تنقيح المطلب نلفت النظر إلى مقدّمة وهي أنّ الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ ذكروا: أنّ عدم النجاسة مثلاً قد يفترض شرطاً في الثوب، واُخرى في المصلّي، وثالثة في الصلاة.

ومن الواضح أنّ أحد طرفي الإضافة في الشرط وهو المشروط بأيّ شكل تصوّرنا الشرط هو ذات الصلاة، وإلاّ لما تقيّدت به، وبالتالي لم تبطل الصلاة في الثوب النجس، فهذا التقسيم يجب أن يكون ناظراً إلى الطرف الآخر من طرفي الإضافة، فإذا تكلّمنا بلسان المانعيّة فتارةً نفترض الظرفيّة بين الصلاة والنجاسة فنقول: إنّ صحة الصلاة مشروطة بعدم وقوع الصلاة في النجاسة أو بعدم وقوعها في النجس، وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في الصلاة، واخرى نبدّل هذه الإضافة الظرفيّة الى الإضافة بين الثوب والنجاسة وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في الثوب، أو نبدّلها الى الإضافة بين المصلّي والنجاسة أو بينه وبين النجس وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في المصلّي، ففي الواقع يبقى المشروط في الصورة الثانية والثالثة ـ أيضاً ـ نفس الصلاة بلا إشكال، ولكن الشرط أصبح عبارة عن نفي الإضافة بين الثوب والنجاسة، أو بين المصلّي والنجاسة


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 72 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 54 ـ 57.

83

أوالنجس، أوقل(بلسان المانعية): إنّ المانع هي الإضافة بين الثوب والنجاسة، أو بين المصلّي والنجاسة أو النجس، وبالإمكان أن تقلب هذه الإضافة الحرفيّة إلى معنىً اسمي يصبح طرفاً للإضافة مع الصلاة، من قبيل تبديل الإضافة الظرفية بين المصلّي والثوب النجس إلى عنوان لبس النجس.

ولاختصار الحديث نحذف فرض تبديل الإضافة إلى معنىً اسمي، ونحذف ـ أيضاً ـ فرض كون عدم النجاسة شرطاً في المصلّي الذي لا يختلف أثره في ما نحن بصدده عن فرض كونه شرطاً في الثوب، فينحصر الكلام بذلك في فروض ثلاثة:

1 ـ أن يكون المانع الثوب النجس، بأن يكون نفس الثوب عند النجاسة هو المبطل للصلاة بظرفيّته للصلاة، والنجاسة جهة تعليلية.

2 ـ أن يكون المانع النجاسة أو نجاسة الثوب مثلاً بظرفيتها للصلاة أيضاً، فالمبطل هنا نفس النجاسة لا الثوب.

3 ـ أن يكون المانع الإضافة الموجودة بين الثوب والنجاسة، فهنا لم تلحظ نسبة الظرفيّة بين الصلاة والثوب، أو الصلاة والنجاسة، كما في الفرضين الأوّلين، بل لوحظت النسبة بين نفس الثوب والنجاسة، وبما أنّ ظرفيّة الثوب أو النجاسة للصلاة أو المصلّي محذوفة في هذا الفرض الثالث فلا بدّ من أخذ هذا القيد في طرف الإضافة المفروضة بين الثوب والنجاسة، بأن يقال مثلاً: إنّ المانع هو أن يكون ثوب المصلّي نجساً؛ إذ من الواضح أنّ نجاسة ثوب آخر غير ثوب المصلّي لا تبطل صلاته.

وبموازاة هذه الصور لمانعيّة النجاسة تتعدّد ـ أيضاً ـ صور شرط الطهارة.

وقد رتّب الأصحاب على هذه الفروض ثمرات في اللباس المشكوك(1) وغيره، ولا بدّ


(1) كأنّه(رحمه الله) ينظر إلى ما ذكره الشيخ النائيني(قدس سره) في اللباس المشكوك ص 293 بانياً على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزلي من أنّ مانعيّة أجزاء غير المأكول إن رجعت إلى اعتبار أن لا يكون المصلّي متلبّساً بها أو مصاحباً لها ونحو ذلك من الاعتبارات اللاحقة للفاعل فسبق تحقّق ذلك في المصلّى عند عدم لبسه للمشكوك كاف في تصحيح استصحاب العدم، وإن رجعت إلى اعتبار أن لا يكون اللباس ونحوه متّخذاً منها ولا مشتملاً عليها، اتّجه التفصيل في جريان استصحاب العدم بين ما إذا كان المشتبه هو نفس اللباس مثلاً أو يكون من عوارضه الموجبة لخروجه عمّا كان عليه من عدم الاشتمال والتلطّخ بأجزاء غير مأكول اللحم، فيجري استصحاب العدم في الثاني دون الأوّل، وإن رجعت إلى اعتبار عدم تخصّص نفس الصلاة بخصوصية الوقوع في أجزاء غير مأكول اللحم ومانعيتها بما هي لاحقة لنفس الصلاة، فاستصحاب العدم لا يجري على الإطلاق؛ لأنّ هذه الصلاة مشكوكة

84

من ملاحظة حال تلك الثمرات بعد تصوير تلك الفروض بالنحو الذي عرفناه هنا.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الصحيح خلافاً للمحقّق الإصفهاني(قدس سره) وجود فرق ذاتي بين فرض الطهارة شرطاً وفرض النجاسة مانعة:

أمّا على الوجه الأوّل فواضح؛ لأنّ الثوب الطاهر أمر وجودي في مقابل الثوب النجس ولو كانت الطهارة أمراً عدمياً، وعليه فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا على الوجه الثاني والثالث، فلأنّ مفهوم الطهارة الخبثية وإن لم يكن بازائها أمر وجودي في الخارج أو في عالم الفرض والتشريع من قبيل النورانية التي تقال مثلاً في الطهارة الحدثية، لكن هذا لا يعني كون الطهارة أمراً عدميّاً محضاً، بل هي أمر عدمّي مطعّم بشيء من الثبوتيّة (ولا يستفاد من مسلّمات المحقّق الإصفهاني خلاف ذلك)، فالطهارة تفترق عن عدم النجاسة من قبيل افتراق عنوان الفوت عن عدم الإتيان الذي يقال: إنّه لا يثبت باستصحاب عدم الإتيان، ولا أقلّ في تطعيم الطهارة بشيء ثبوتي من تطعيمها بمسألة الاتّصاف، فلا تكون عدماً نعتيّاً، إذن فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا ما ذكره السيّد الاُستاذ من إنكار الثمرة بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة فهو ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّنا نبرز ظهور الثمرة بينهما في موردين:

الأوّل: في جريان البراءة أو الاشتغال لدى الشكّ في طهارة الثوب، فعلى اشتراط الطهارة يجرى الاشتغال مطلقاً، وعلى مانعيّة النجاسة تجري البراءة على بعض الصور المتقدّمة.

والوجه في ذلك هو ما مضى في مبحث الشبهة الموضوعيّة من البراءة والاشتغال من أنّه إذا كان الشكّ في انطباق العنوان المتعلّق للحكم على حصّة من الحصص كان الشكّ شكّاً في التكليف، وتجري البراءة، كما لو شككنا في صدق عنوان قتل المؤمن الحرام على قتل زيد؛ للشكّ في إيمانه، فتجري البراءة بقطع النظر عن انقلاب الأصل في الدماء مثلاً، وإذا أحرزنا انطباق العنوان على الحصّة وشككنا في تحقّق تلك الحصّة بفعلنا، كان الشكّ شكّاً في الامتثال، كما لو شككنا في أنّه بإطلاقنا هذا الرصاص هل يقتل زيد المؤمن لمصادفته إيّاه، أو


الحال في ذاتها، وليست مسبوقة بحالة سابقة تستصحب في المقام.

ثم استظهر(رحمه الله) من الأدلّة الثالث، أعني: مانعيّتها عن الصلاة بما هي من الخصوصيّات اللاحقة لنفس الصلاة دون المصلّي مثلاً أو ما يصلّي فيه.

85

لا يقتل لعدم المصادفة، فهنا تجري أصالة الاشتغال. وعليه فنقول في ما نحن فيه: إذا كانت الطهارة شرطاً بأيّ نحو من الانحاء الثلاثة المتقدمة، فالشكّ متمحّض في حصول الواجب بالصلاة في هذا الثوب وعدمه، فتجري أصالة الاشتغال، وإذا كانت النجاسة مانعة فعندئذ إن تصوّرنا ذلك بالنحو الأوّل، أعني: أنّ المانع هو الثوب والنجاسة حيثيّة تعليليّة، فهذا ينحلّ بتعدّد الثوب النجس، ويكون الشكّ في نجاسة ثوب شكّاً في مانع جديد تجري البراءة عنه؛ لأنّنا شاكّون في كون الصلاة في هذا الثوب متّصفاً بنحو مفاد كان الناقصة بكونها صلاة في الثوب النجس، ويشترط في حرمتها اتّصافها بذلك.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثاني، أي: أنّ المانع هو النجاسة أو نجاسة الثوب، فهنا وإن تمّ الانحلال ـ أيضاً ـ إلى موانع عديدة، ولكنّنا حينما شككنا في نجاسة ثوب ليس هذا معناه الشكّ في حرمة الصلاة في نجاسة هذا الثوب، بل هذا مقطوع به بناءً على ما نقّحناه في محلّه من أنّ فعليّة مانعيّة المانع لا تتوقّف على وجود المانع بنحو مفاد كان التامّة، وإنّما الشكّ شكّ في تحقق هذا الحرام بالصلاة في هذا الثوب وعدمه نظير الشكّ في حصول قتل زيد بالرصاص، فهنا لا بدّ من الاحتياط.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثالث، أي: أنّ المانع عبارة عن أن يكون ثوب المصلّي نجساً، فهنا ـ أيضاً ـ يثبت الانحلال، لكن بلحاظ تعدّد أثواب المصلّي إذا لبس أثواباً متعدّدة، فتوجد موانع متعدّدة لا بلحاظ مطلق الأثواب الخارجية؛ لما مضى من أنّه ليس كون أيّ ثوب نجساً هو المانع، وهنا ـ أيضاً ـ نقول بما قلناه في النحو الثاني من أنّ الانحلال لا يشفع لجريان البراءة؛ لأنّ المهمّ في المقام ما ذكرناه من أنّ فعليّة المانعيّة ليست مشروطة بوجود المانع خارجاً، فيكون المورد مورداً للاشتغال.

والخلاصة: أنّنا لو قلنا باشتراط فعليّة المانعيّة بوجود المانع خارجاً، فالبراءة تجري في كلّ الأنحاء الثلاثة للمانعيّة لدى الشكّ، ولكنّها لا تجري في فرض شرطيّة الطهارة. ولو قلنا بعدم اشتراط فعليّة المنع بوجود المانع خارجاً: إمّا لاستظهار لفظي، أو لعدم معقولية هذا الاشتراط، كما اخترنا ذلك في بعض أبحاثنا الماضية، فالشكّ في النحوين الأخيرين من أنحاء المانعيّة يلحق بفرض شرطيّة الطهارة في أنّه يكون مجرىً للاشتغال دون البراءة، ويكون النحو الأوّل من أنحاء المانعيّة هو المورد الوحيد لجريان البراءة لدى الشكّ.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة ثمرة فرضيّة وتقديريّة؛ لأنّه على أيّ حال تجري أصالة الطهارة، فيتنقّح بذلك وجود الشرط أو عدم المانع.

86

قلت: يمكن فرض عدم جريان أصالة الطهارة لسقوطها بمعارض، كما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا الثوب أو ذاك الماء الذي كان قد استعمله في الوضوء وانتهى بالاستعمال، ولنفترض أنّ وضوءه به كان مع الغفلة؛ كي لا تجري قاعدة الفراغ وتعارض أصالة البراءة في المقام.

الثاني: ما إذا شكّ في النجاسة الذاتيّة، كالشكّ في كون هذا اللباس من جلد الخنزير بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان أصالة الطهارة لدى الشكّ في النجاسة الذاتيّة، فعند ئذ لو قلنا بمانعيّة النجاسة رفعنا احتمال المانع باستصحاب عدم النجاسة الأزلي. و أما لو قلنابشرطية الطهارة فلا يمكن إحراز الشرط بالاستصحاب بناءً على كون الطهارة مطعّمة بمعنىً ثبوتي لا أقلّ من الاتّصاف.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة فرضيّة وتقديرية؛ لأنّه على أيّ حال يجرى في المقام استصحاب موضوعيّ، وهو استصحاب عدم الخنزيريّة مثلاً.

قلنا: إنّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري في ما هو ذاتيّ عرفاً كالخنزيريّة.

 

وجوه الشرطية والمانعية الملائمة لصحّة الصلاة حال الجهل:

والآن فلندخل في تصوير وجوه الشرطيّة والمانعيّة الملائمة لصحّة الصلاة عند الجهل. وكلامنا في ذلك يكون ثبوتياً. وأمّا البحث الإثباتي فمحوّل على الفقه.

والكلام تارةً يقع على تقدير مانعيّة النجاسة، واُخرى على تقدير شرطيّة الطهارة:

أمّا على تقدير مانعيّة النجاسة فذكر المحقّق النائيني(قدس سره)(1) في تصوير المطلوب وجهين:

1 ـ تقييد المانعية بكون النجاسة واصلة ومعلومة.

2 ـ تقييدها بتنجّز النجاسة.

وكلّ من هذين الوجهين يمكن فرضه بنحو التركيب، بأن يكون موضوع المانعيّة مركّباً من النجاسة والوصول، أو التنجّز، ويمكن فرضه بنحو تمام الموضوع، بأن يكون تمام موضوع المانعية هو الوصول أو التنجّز، وتظهر الثمرة في انكشاف الخلاف مع تحقّق قصد القربة رغم وصول النجاسة أو تنجّزها، فلو كان الوصول أو التنجّز تمام الموضوع للمانعيّة فقد بطلت الصلاة. وإن كان جزءاً للموضوع، والجزء الأخير هو الواقع، فانكشاف الخلاف يعني


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 346 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

87

انكشاف عدم وجود المانع، فتصحّ الصلاة.

أمّا الوجه الأوّل: وهو التقييد بالوصول والعلم، فغير صحيح، سواء اُريد بذلك العلم الوجداني أو اُريد به ما يعمّ العلم التعبّدي بناءً على مبناه من أنّ الأمارات تفيد العلم التعبّدي.

أمّا على الأوّل: فلأنّه يلزم من ذلك أنّه مع الشكّ يقطع بعدم المانعية، ولا معنى لاستصحاب عدم النجاسة؛ لأنّها خارجة عن موضوع المانعية بناءً على كون الوصول تمام الموضوع للمانعية، وهي جزء لموضوع المانعيّة بناءً على كون الوصول جزء الموضوع، ولا أثر لاستصحاب عدم جزء الموضوع لدى القطع بعدم الجزء الآخر، في حين أنّ مفروض الرواية في المقام هو الاستصحاب عند الشكّ في طروّ النجاسة.

وأمّا على الثاني: فإمّا أن يشترط وصول العلم التعبّدي بالوجدان، أو انتهاؤه إلى الوجدان ولو بعد توسّط عدّة علوم تعبّدية، أو لا يشترط ذلك، ويكتفى بوجود بيّنة على النجاسة مثلاً في الواقع غير واصلة. فإن قيل بالأوّل لزم ـ أيضاً ـ لدى الشكّ وعدم الانتهاء إلى الوجدان أن لا يكون مورداً لاستصحاب عدم النجاسة، وإن قيل بالثاني لزم بطلان الصلاة في الثوب النجس جهلاً مع وجود بيّنة غير واصلة، والفتوى الفقهية على خلاف ذلك، والمفروض فعلاً التفتيش عن وجه ثبوتي ينسجم مع ما في الفقه من الافتاء بالصحة في موارد الجهل.

وأمّا الوجه الثاني: وهو أخذ التنجيز في المانعيّة، فلا يرد عليه الاعتراض السابق؛ إذ بمجرّد الشكّ في النجاسة لا يقطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

وذلك واضح على مبنانا من إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لأنّ الأصل الأوّلي ـ عندئذ ـ هو التنجيز، ولا بدّ من رفعه بالرجوع إلى أصل شرعي، فيرجع إلى الاستصحاب كما يرجع إلى أصالة الطهارة مثلاً.

وأمّا بناءً على تسليم قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فلو أخذنا في المقام بصور المانعية التي تقتضي كون الشكّ في النجاسة شكّاً في الامتثال لا في التكليف، فالأمر واضح أيضاً؛ لأنّ الشكّ في النجاسة لم يرفع التنجيز ما دام راجعاً إلى الشكّ في الامتثال، فلم يوجب القطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

أمّا لو أخذنا في المقام بما يقتضي رجوع الشكّ إلى الشكّ في التكليف، فبالنسبة لما قبل الفحص عن حكم الشرع لدى هذا الشكّ لا إشكال ـ أيضاً ـ في التنجيز بلحاظ عدم