74

اقترانه بأمارة عقلائية توجب ذلك، وهي التهافت وعدم الانسجام بين الجواب والسؤال، وفي مثل ذلك يخرج الإخبار عن تحت دليل الحجّيّة؛ إذ لا يكفي عندنا وثاقة الراوي، بل لا بدّ من موثوقيّة الرواية على ما نقّحناه في بعض أبحاثنا(1) من أنّ وثاقة الراوي لوحظت بنحو الطريقية والآلية نحو موثوقية الخبر، ونحن لا ندري هل الحديث بعد فرض إصلاح ذلك الخلل يبقى ظاهراً في الاستصحاب أو لا؟ إذن هذا الإشكال على تقدير العجز عن جوابه يسقط الحديث عن قابليّة الاستدلال به على المقصود.

لا يقال: إنّ غاية ما يفرض هنا هو وجود خلل بالنسبة إلى ظهور الكلام في العلم بسبق النجاسة. وأمّا ظهوره في الاستصحاب فهو باق على حاله من كونه مجرىً لأصالة صحّة شهادة الراوي بعدم الخلل فيه، فإنّ شهادة الراوي بعدم الخلل تنحلّ بعدد الظهورات في المقام، ولا يمكن فرض العكس، بأن يكون الخلل في خصوص الظهور الاستصحابي؛ لأنّ الإشكال وارد حتّى على فرض حمل الحديث على القاعدة.

فإنّه يقال: إنّ هذا الكلام غير صحيح، لا لأنّه كمايحتمل كون الخلل في ظهور الكلام في العلم بسبق النجاسة دون غيره كذلك يحتمل كونه في دلالة الكلام على استفادة قاعدة في فرض الشك راساً، سواء كانت هي الاستصحاب أو قاعدة اليقين، كي يقال في الجواب: إنّ كون الرواية في مقام بيان قاعدة ظاهريّة لا يمكن إنكاره، وليست قابلة لغير هذا الفرض ولو بضمّها إلى قرينة تغيّرُ مفادها؛ بل لأنّ العرف غير مساعد على هذا الانحلال في شهادة الراوي والأخذ بإحدى الشهادات دون الاُخرى، فمهما كان عندنا ظهوران وحصل العلم بخلل في أحدهما المعيّن، واحتملنا أنّ ذاك الخلل لو صحّح بإرجاع ما سقط مثلاً كان هذا الساقط من طرف هذا الظهور مؤثّراً في الظهور الآخر أيضاً، ومع وجوده ينتفي كلا


(1) قد يقال: حتّى لو اكتفينا بوثاقة الراوي لا يمكننا هنا الأخذ بشهادة الراوي؛ وذلك لأنّ أصالة صحّة شهادته معارضة بأصالة الظهور؛ إذ لو صحّت شهادته لزم من ذلك ارتكاب مخالفة الظاهر في المقام؛ لأنّ قوله: «رأيت فيه» ظاهر حسب الفرض في العلم بسبق النجاسة، فإجابة الإمام(عليه السلام) بجواب لا ينسجم إلاّ مع الشكّ في سبق النجاسة إنّما يكون على أساس إعمال الغيب والاطّلاع على أنّ مراده كان ذلك، وهذا خلاف الظاهر، وبعد التساقط والتعارض لا يبقى عندنا دليل على صحّة شهادة الراوي، وبالتالي يبقى احتمال الخلل بلا مؤمّن، ومن المحتمل كون ذلك الخلل دخيلاً فيما هو المقصود، فيسقط الحديث عن الاستدلال به.

وذكر(رحمه الله) في مقام التعليق على هذا الوجه: أنّه إن حصل لنا العلم والاطمئنان بأنّه(عليه السلام) لم يعمل علم الغيب في المقام فهنا نجزم بالخلل، لا أنّه يحصل تعارض بين الأصلين، وإلاّ فأصالة عدم الخلل مقدّمة على أصالة الظهور؛ لأنّ العقلاء يرون حجّيّة الظهور بعد الأخذ بكلّ ما في المقام من قرينة أو معارض ونحو ذلك بعين الاعتبار.

75

الظهورين، فهنا لا يأخذ العرف بشيء من الظهورين. وبكلمة اُخرى: إنّ الراوي لا يشهد بعدم عنوان القرينة على الخلاف حتّى يقال: إنّ هنا عنوانين للقرينيّة، فتصحّ شهادته بلحاظ أحدهما وتبطل بلحاظ الآخر، وإنما يشهد بعدم واقع القرينة، فإذا بطلت هذه الشهادة، واحتملنا كون ذلك الواقع قرينة لصرف ظهور آخر أيضاً، اختلّ ـ لا محالة ـ الأخذ بذلك الظهور الآخر.

 

إمكان حلّ الإشكال المشهور:

وأمّا الجهة الثانية، فقد اشتهر جوابان رئيسان عن هذا الإشكال، أعني: إشكال أنّ الإعادة في المقام نقض لليقين باليقين:

1 ـ أنّ جوابه(عليه السلام) مبتن على كفاية الطهارة الظاهرية في صحّة الصلاة، بمعنى: أنّ الشرط الواقعي مثلاً هو الأعمّ من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية في حال الصلاة، فانكشاف الخلاف لا يضرّ بصحّة الصلاة، فبالرغم من حصول العلم بعد الصلاة بالنجاسة في حال الصلاة لا بأس بتعليل عدم الإعادة بالاستصحاب.

2 ـ أنّ جوابَه(عليه السلام) مبتن على إجزاء الأوامر الظاهرية وعدم لزوم الإعادة بعد انكشاف الخلاف، فأيضاً لا بأس بالتعليل بالاستصحاب بالرغم من انكشاف الخلاف، لعدم مضرّيّة ذلك بعد فرض إجزاء الأمر الظاهري.

وقد اختلف موقف المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية من هذين الجوابين، فسلّم الجواب الأوّل من دون أيّ دغدغة وإشكال، ولكنّه استشكل في الجواب الثاني وإن كان ذكر له بعد ذلك توجيهاً(1).

وقد ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) في المقام: أنّه لا وجه للتفصيل بين الجوابين، بل لا بدّ إمّا من قبولهما معاً، أو ردّهما معاً؛ فإنّ محصّل كلا الجوابين هو: أنّ الإمام(عليه السلام) بيّن في مقام تعليل صحّة الصلاة الاستصحاب، وهذا التعليل يصحّ بفرض كبرىً محذوفة في المقام وهي كبرى كفاية الطهارة الاستصحابيّة والظاهريّة واقعاً، أو كبرى إجزاء الطهارة الاستصحابية والظاهرية من باب إجزاء الحكم الظاهري، فإن لم نستسغ في المقام وجود كبرىً محذوفة لم يصحّ كلا الجوابين، وإن استسغناه صحّ كلاهما، ونحن نستسيغه، فإنّ حذف الكبرى هو الشيء


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 290 ـ 293، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

76

المتعارف في تمام موارد التعليل، كما يقال: لا تشرب الخمر لأنّه مسكر. فإنّ هنا كبرىً محذوفة، أي: وكلّ مسكر حرام(1).

وذكر السيد الاُستاذ في المقام: أنّ هذين الجوابين في الحقيقة هما جواب واحد، وليسا جوابين حتّى يقال بصحّة التفصيل بينهما بقبول أحدهما دون الآخر، أو عدم صحّته، فإنّه لا معنى لإجزاء الحكم الظاهري إلاّ بتوسعة دائرة الواقع، ومن دون ذلك لا يتعقل الإجزاء، فمعنى كفاية الطهارة الظاهرية في المقام ليس على أيّ حال إلاّ توسيع دائرة شرط الصحّة، وهو الطهارة، فلا يوجد أيّ فرق بين الجوابين(2).

أقول: الفرق بين الجوابين هو: أنّ معنى توسعة دائرة الشرط الواقعي هي سعة الواجب، بمعنى أنّه ليس الواجب هو خصوص الصلاة مع الطهارة الواقعية، بل الواجب هو الصلاة مع الجامع بين الطهارتين، أو قل: الجامع بين الصلاة مع الطهارة الواقعيّة والصلاة مع الطهارة الظاهريّة؛ لكون الصلاة مع الطهارة الظاهريّة واجدة للملاك تماماً كالصلاة مع الطهارة الواقعية، ومعنى إجزاء الأمر الظاهري ليس هو توسعة دائرة الواجب باعتبار عدم اختصاص الملاك بخصوص الطهارة الواقعيّة، بل معناه تضييق دائرة الوجوب، وكون وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مقيّداً بعدم الصلاة مع الطهارة الظاهريّة باعتبار كون الصلاة مع الطهارة الظاهرية مفوّتة للملاك، ومانعة عن إمكان تحصيل الملاك بعدها بالإتيان بصلاة أُخرى مع الطهارة الواقعية. وبهذا البيان يظهر مدى الفرق الكبير بين الجوابين. هذا ما يتعلّق بكلام السيّد الاُستاذ.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من عدم إمكان التفصيل بين الوجهين في الصحّة والبطلان؛ لأنّنا إن لم نستسغ وجود كبرىً محذوفة بطل كلا الوجهين، وإن استسغناه صحّ كلا الوجهين، فبإمكان المحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يفصّل بين الوجهين إذا أخذ بالشقّ الأوّل، وهو عدم استساغة الحذف ـ كما هو الصحيح بالمعنى الذي سوف نبيّن إن شاء الله ـ، وهذا التفصيل يتّجه بناءً على المبنى الذي اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في بحث الإجزاء، حيث ذكر هناك: أنّ مثل قاعدة الطهارة والحلّية (وقال: بل واستصحابهما في وجه قويّ) يدلّ على


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 350 ـ 351 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 366.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 57 ـ 58.

77

توسعة دائرة الشرط الواقعي(1).

فبناءً على هذا المبنى نقول: إنّ الجواب الأوّل ـ وهو الجواب بتوسعة الشرط الواقعي ـ صحيح، ولا يلزم من ذلك حذف الكبرى، وهي هذه التوسعة؛ لأنّ هذه التوسعة مستفادة من نفس دليل الاستصحاب، أي: من نفس هذه الفقرة، وهي قوله: «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» والجواب الثاني غير صحيح؛ لأنّه(قدس سره) لا يقول باستفادة إجزاء الأمر الظاهري من نفس دليل الاستصحاب، فيقع الاحتياج إلى حذف الكبرى.

بقي الكلام في أصل صحّة هذين الوجهين في المقام وعدمها، والواقع: أنّ حمل الحديث على مسألة إجزاء الأمر الظاهري أو توسعة دائرة الشرط الواقعي كتوجيه للحديث أمر معقول، لكنّه ليس هذا تفسيراً موافقاً لظاهر الحديث، بل يبقى بعد ذلك التهافت وعدم الانسجام بين ظاهر السؤال في نفسه وظاهر الجواب في نفسه ثابتاً على حاله بنحو يحصل الظنّ بحصول خلل في الحديث، فيسقط عن قابلية الاستدلال به؛ وذلك لأنّ ظاهر الجواب في نفسه لا ينسجم مع هذين الوجهين، ونبيّن ذلك ضمن وجوه:

1 ـ أنّ ظاهر الاستدلال بحكم ظاهريّ ـ كما وقع في الحديث ـ إنّما هو الاستدلال به بما هو حكم ظاهري وطريق الى الواقع، لا بما هو موضوع لحكم واقعي(2)، وهذان الوجهان مفادهما هو النظر إلى الطهارة الظاهريّة بما هي موضوع لحكم واقعيّ من الإجزاء أو سعة دائرة الشرط، ومفيدة للصحّة الواقعيّة للصلاة.

2 ـ أنّه في هذا الحديث ذكر أوّلاً الحكم بعدم الإعادة، ثمّ علّل هذا الحكم بحكم آخر،


(1) راجع الكفاية: ج 1، ص 133، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) قد يقال: إنّنا لو أردنا التحفّظ على ما يفهم من روايات اُخرى وعليه الفتوى من صحّة صلاة من صلّى في النجس جاهلاً وإن انكشف له واقع الحال بعد الصلاة، فلا بدّ لنا من مخالفة هذا الظهور حتّى لو لم نقبل بما فهمه المشهور من حمل هذه الصحيحة على الاستصحاب في حال الصلاة، وقبلنا بما اختاره اُستاذنا من حملها على الاستصحاب بعد الصلاة، فان الصحّة

ـ على أيّ حال ـ واقعيّة؛ لأنّ الصلاة في النجس كانت عن جهل. نعم، قد يقال: إنّ مخالفة الظهور هذه إنّما كانت نتيجة دليل منفصل، وهي الروايات الاُخرى الدالّة على الصحّة الواقعيّة، فهذا لا يؤدّي إلى التهافت الداخلي في مفاد هذه الصحيحة الموجب لسقوط الاستدلال بها على الاستصحاب.

وقد يقال: لا مانع من تمسّك الإمام(عليه السلام) بالصحّة الظاهرية في المقام رغم ثبوت الصحّة الواقعية، وذلك بدعوى: أنّ مصحّح الصلاة واقعاً وإن كان هو الجامع بين الطهارة الواقعية والخيالية أو الظاهرية، إلاّ أنّ الفرد الأوّل هو أكمل الأفراد فآثر الإمام(عليه السلام) أن يثبت لزرارة الصحّة بالمستوى الأكمل ظاهراً بدلاً عن إثبات الصحّة بالمستوى النازل واقعاً.

78

وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، ومثل هذا ينصرف بذاته بحسب الفهم العرفيّ إلى أن يكون تعليلاً لحكم أخصّ بحكم أعمّ لا تعليلاً لحكم بحكم آخر مباين وملازم له، أي: أنّه ينصرف بطبعة الأوّلي إلى أن يكون من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد؛ لأنّه يجب إكرام العالم» لا من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد لأنّه يجب إكرام عمرو» عند ما يكون وجوب إكرام عمرو مستلزماً لوجوب اكرام زيد، وعلى هذا فيلزم أن تكون الإعادة في المقام بنفسها صغرىً من صغريات نقض اليقين بالشكّ، مع أنّ الإعادة بنفسها ليست كذلك في المقام؛ لأنّه لو أعاد فهو يعيد لأجل حصول العلم له بعد الصلاة بالنجاسة. نعم، الحكم بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ يستلزم ـ بعد فرض إجزاء الحكم الظاهريّ أو توسعة الشرط الواقعيّ ـ الحكم بعدم الإعادة، فيكون من قبيل قولنا: «يجب إكرام زيد؛ لأنّه يجب إكرام عمرو»، وهذا خلاف الطبع الأوّلي لمثل هذا السياق.

والخلاصة: أنّه مهما ذكر حكم وعلّل بحكم، وأمكن أن يكون الحكم الثاني تعميماً للحكم الأوّل، أي: لم يكن من قبيل تعليل أمر بنهي، أو من قبيل تعليل وجوب إكرام زيد بوجوب إكرام عمرو، انعقد للكلام ظهور في أنّ المولى ليس بصدد بيان حكم جديد، وإنّما هو بصدد تعميم نفس الحكم الإوّل.

3 ـ أنّ هذين الوجهين، أعني: حمل الحديث على مسألة الإجزاء أو سعة الشرط الواقعي يستدعيان تقدير كبرىً محذوفة في المقام، وهي كبرى إجزاء الأمر الظاهريّ أو سعة الشرط الواقعيّ كما مضى ذلك في نقل كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) وما وجّهنا به تفصيل المحقّق الخراساني(قدس سره) في المقام من دعوى عدم احتياج توسعة الشرط إلى كبرىً محذوفة إنّما يتم على مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) الذي نقلناه آنفاً من استفادة التوسعة من نفس لسان دليل الأصل، وحيث إنّنا لا نقبل هذا المبنى فيبقى الاحتياج إلى كبرىً محذوفة ثابتاً على حاله. وعليه نقول: إنّ وجود كبرىً محذوفة من هذا القبيل في المقام ليس منسجماً مع البيان العرفيّ، وإنّ الحذف في نفسه خلاف الظاهر المستساغ ما لم تكن هناك نكتة عرفيّة تجعل الحذف عرفيّاً. وما مضى من المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ من دعوى: أنّ حذف الكبرى في التعليل هو الشيء المألوف دائماً في موارد التعليل كما في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» فإنّ هنا كبرىً محذوفة، وهي قولنا: «وكلّ مسكر حرام» ـ(1) في غير محلّه، فإنّه بعد أخذ المدلول السياقي


(1) كأنّ هذا المقطع مستنبط من كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) وإلاّ فلا يوجد في شيء من التقريرين النقض بمثل

79

بعين الاعتبار يرى أنّه ليس هناك شيء محذوف في مثل قولنا: (لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر). توضيح ذلك: أنّه (بناءً على صحّة ما اشتهر في لسان الأصحاب من أنّ التعليل يلغي خصوصية المورد، وأنّ تلك الخصوصيّة لا تؤخذ في نفس العلّة، وأنّ التعدّي في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» ليس لخصوص نكات مركوزة في هذا المثال من قبيل مناسبة الحكم والموضوع، بل يكون لنكتة عامّة في المقام، وهي: أنّ العلّة ـ بحسب قانون التعليل ـ تكون نفس الإسكار (لا إسكار الخمر بأن يؤخذ قيد الخمر في العلّة) نقول: إنّ الوجه في التعدّي في موارد منصوص العلّة هو أنّ العرف يفهم ـ بحسب المدلول السياقي من تصدي المولى للتعليل ـ أنّه يكون في مقام إلغاء خصوصيّة المورد، فإذا قال المولى: «لا تشرب الخمر لإسكاره، أو لأنّه مسكر؛ أو لأنّه مسكر بالتخمر» يكون تصدّي المولى في المقام لتعليل الحكم ظاهراً ـ بحسب المدلول السياقي ـ في أنّه بصدد رفض خصوصيّة المورد، وهي الخمرية، ومع رفض هذه الخصوصيّة وإسقاطها عن الحساب تتبقّى ـ لا محالة ـ خصوصيّة الإسكار المذكورة في التعليل؛ إذ لا خصوصيّة اُخرى في الكلام، فتفهم ـ لا محالة ـ حرمة كلّ مسكر بلا حاجة إلى تقدير كبرىً كلّيّة، وهي قولنا: «كل مسكر حرام».

هذا كلّه في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» وأما إذا اُريد تطبيق ما ذكرناه على ما نحن فيه، أي: على مثل قولنا: «لا تعيد للاستصحاب» فغاية ما ينتج هي إسقاط خصوصيّة المورد، ومعنى ذلك: هو عدم الإعادة في كلّ موارد الاستصحاب كما كان معنى إسقاط خصوصيّة المورد في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» هو حرمة شرب كلّ مسكر، ولكن في قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» كان ينتهي بهذا كلّ شيء؛ لأنّ المسكر كان هو الموضوع بنفسه للحكم بالحرمة بلا حاجة إلى همزة وصل بينهما في المقام، فلم يبقَ أيّ نقص وحذف في الكلام. وأمّا في ما نحن فيه فليس الاستصحاب بنفسه هو الذي يحمل عليه الحكم بعدم الإعادة، وإنّما ربط هذا الحكم بالاستصحاب حسب الفرض بواسطة حكم آخر محذوف في المقام، وهو الحكم بتوسعة الشرط الواقعي أو بتضيّق الوجوب الواقعيّ بصورة عدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهريّة مثلاً. وهذه هي المؤونة الزائدة في المقام غير الموجودة في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر».

 


(لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر).

80

إن قلت: إنّ في مثل هذا المثال ـ أيضاً ـ لم يذكر ملاك ثبوت حكم الحرمة على المسكر، فلتكن نسبة توسعة الشرط الواقعيّ او تضيّق الوجوب الواقعيّ إلى ترتّب الحكم بعدم الإعادة على الاستصحاب كنسبة الملاك في مثال الخمر إلى ترتّب الحرمة على الإسكار.

قلت: الحرمة في مثال الخمر موضوعها واقعاً هو الإسكار، ولم يحذف بينهما شيء، فكلام المتكلّم تامّ؛ فإنّه ذكر أوّلاً شيئاً وهو حرمة الخمر، ثمّ ذكر تمام علّة ذلك، وهو الإسكار. نعم، لم يذكر علّة العلّة، أي: السبب في حرمة الإسكار، ولكن ليس المفروض في الكلام أن تذكر تمام العلل المتسلسلة. وأمّا في المقام فعدم الإعادة إنّما هو حكم لتوسعة الشرط أو ضيق الوجوب لا للاستصحاب، وإنّما الاستصحاب هو محقِّق لموضوع توسعة الشرط، أو ضيق الوجوب المترتّب عليه عدم الإعادة.

وبكلمة اُخرى: أنّه في مثال الخمر يكون المعلّل هو حرمة الخمر، والمعلل به هو حرمة المسكر، وليست بين المعلّل والمعلّل به واسطة محذوفة. نعم، تكون للعلّة وهي حرمة المسكر علّة اُخرى لم تذكر. وأمّا في المقام فالمعلّل هو عدم إعادة الصلاة، والمعلّل به هو الاستصحاب، ولكن الحكم المجعول من قبل المولى الذي سبّب عدم الإعادة ليس هو الحكم بعدم الإعادة عند جريان الاستصحاب، فإنّ المولى لم يحكم بذلك على الاستصحاب، وإنما الذي صنعه المولى في المقام هو توسعة الشرط أو تضييق الوجوب، وهذه الواسطة في المقام محذوفة ومقدّرة، وهو خلاف الأصل.

4 ـ أنّنا لو سلّمنا تقدير كبرىً محذوفة في مثل قولنا: «لا تشرب الخمر، لأنّه مسكر» وقلنا: إنّ هذا الحذف والتقدير هناك عرفي، فإنّنا لا نسلّم كون التقدير عرفياً في ما نحن فيه. وتوضيح ذلك: أنّ عرفيّة التقدير هناك نشأت من ارتكازيّة الشكل الأوّل في أذهان العرف، فالمتكلم إذا ذكر مقدّمة واحدة وهي الصغرى، انساق ذهن العرف بطبعة إلى طلب الكبرى وتقديره في الكلام، فحينما يسمع قوله: «لا تشرب الخمر؛ لأنّه مسكر» يقدّر لذلك كبرىً وهي قولنا: «وكلّ مسكر حرام». وأمّا في المقام فالعرف قد واجه مقدّمتين: الاُولى: صغرى وهي قوله: «كنت على يقين من طهارتك فشككت» والثانية: كبرى وهي قوله: «وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، فلا تبقى له حالة انتظاريّة، ولا ينساق ذهنه إلى تقدير كبرىً في المقام، وليس المذكور في الكلام المقدّمة الثانية فقط، وهي الاستصحاب حتّى يدّعى فرضه صغرىً لكبرىً محذوفة، بل هي بنفسها كبرىً لمقدّمة مذكورة في الكلام، فلا يفهم العرف هنا تقدير كبرىً يجعل هذه الكبرى صغرىً لها.

81

5 ـ أنّنا لو فرضنا أنّ العبارة اقتصرت على ذكر قوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، وأنّها لم تذكر المقدّمة الاُولى، فالعرف هنا ينساق بارتكازيّة الشكل الأوّل إلى تقدير مقدّمة، قلنا عند ئذ: إنّ هذه المقدّمة المحذوفة، أمرها دائر بين أن تكون صغرىً للمقدّمة المذكورة في العبارة، وذلك بأن تكون المقدّمة المحذوفة هي قوله: «كنت على يقين من طهارتك، وشككت» أو تكون كبرىً لها، وذلك بأن تكون هي قاعدة إجزاء الحكم الظاهريّ أو توسعة الشرط الواقعي، وإذا صلحت المقدّمة المذكورة في الكلام لأن تكون كبرىً ذات صغرىً محذوفة وأن تكون صغرىً ذات كبرىً محذوفة فلعلّه يقال: إنّ العرف يفرضها في كلام الشارع كبرىً لصغرىً محذوفة، باعتبار ما هو المركوز في الأذهان من أنّ وظيفة المولى هي بيان الكبريات وتشريعها، لا الصغريات وتشخيصها.

ويمكن أن يذكر في المقام وجه سادس، وهو أنّه(عليه السلام) قال: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، ولو كان مقصوده تطبيق الاستصحاب بلحاظ الزمان الماضي، وهو زمان انشغاله بالصلاة، لكان يقول: لم يكن ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك.

ويرد عليه: أنّه بما أنّ الإمام(عليه السلام) يكون بصدد بيان حكم وجعل بنحو القضية الحقيقيّة ثابت في كلّ زمان يكون بيانه بهذا اللسان الموجود في الحديث وهو قوله: «ليس ينبغي لك...» بياناً عرفيّاً لا إشكال فيه.

 

تحقيق أصل المطلب:

وأمّا الجهة الثالثة: فيتكلّم فيها في كيفية شرطيّة الطهارة أو مانعيّة النجاسة في الصلاة بعد الفراغ عن أنّه لا بدّ من ضيق في دائرة المانعية أو توسعة في دائرة الشرطية بناءً على استفادة صحّة الصلاة في الثوب النجس جهلاً من هذه الصحيحة.

بل حتّى لو لم نقبل دلالة الصحيحة على ذلك ـ كما هو كذلك على ما اخترناه من أنّ مفروض الفقرة الثالثة هو الشكّ بعد الصلاة في تقدّم النجاسة لا العلم به ـ تكفينا أخبار اُخرى دالّة على صحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة في الجملة. وعليه فلا بدّ من فرض قيد في المقام ينسجم مع هذا الحكم.

 

شرطية الطهارة ومانعية النجاسة وثمرة القول بالفرق بينهما:

ولنتكلّم أوّلاً في أصل شرطيّة الطهارة ومانعية النجاسة هل هناك فرق مضمونيّ بينهما،

82

أو لا فرق بينهما، فهما شيء واحد، فلا يبقى موضوع للحديث عن أنّه هل الطهارة شرط أو النجاسة مانعة. وعلى تقدير وجود فرق مضمونيّ بينهما هل تترتّب على هذا الفرق ثمرة أو لا؟ فإنّ هاتين النقطتين وقعتا مثاراً للشكّ والترديد من قبل المحقّقين:

فالمحقّق الإصفهاني(رحمه الله) ناقش في النقطة الاُولى، وهي وجود فرق مضموني بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة ببيان: أنّ الطهارة لو كانت ضدّاً وجودياً للنجاسة لصحّ الفرق المضمونيّ بين شرطيّة الطهارة ومانعية النجاسة الراجعة إلى شرطيّة عدم النجاسة، فإنّ شرطية عدم أحد الضدّين غير شرطية الضد الآخر، لكن الطهارة ـ في الحقيقة ـ ليست إلاّ عبارة عن عدم النجاسة، فشرطيّة الطهارة ـ أيضاً ـ معناها شرطيّة عدم النجاسة، فلا يبقى فرق مضموني بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة(1).

كما أنّ السيّد الاُستاذ ناقش في النقطة الثانية، أعني: ترتّب الثمرة بعد الاعتراف بالنقطة الاُولى، فذكر: أنّه لا توجد ثمرة فقهيّة تترتّب على كون الطهارة شرطاً أو النجاسة مانعة(2).

وقبل تنقيح المطلب نلفت النظر إلى مقدّمة وهي أنّ الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ ذكروا: أنّ عدم النجاسة مثلاً قد يفترض شرطاً في الثوب، واُخرى في المصلّي، وثالثة في الصلاة.

ومن الواضح أنّ أحد طرفي الإضافة في الشرط وهو المشروط بأيّ شكل تصوّرنا الشرط هو ذات الصلاة، وإلاّ لما تقيّدت به، وبالتالي لم تبطل الصلاة في الثوب النجس، فهذا التقسيم يجب أن يكون ناظراً إلى الطرف الآخر من طرفي الإضافة، فإذا تكلّمنا بلسان المانعيّة فتارةً نفترض الظرفيّة بين الصلاة والنجاسة فنقول: إنّ صحة الصلاة مشروطة بعدم وقوع الصلاة في النجاسة أو بعدم وقوعها في النجس، وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في الصلاة، واخرى نبدّل هذه الإضافة الظرفيّة الى الإضافة بين الثوب والنجاسة وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في الثوب، أو نبدّلها الى الإضافة بين المصلّي والنجاسة أو بينه وبين النجس وهذا ما يعنونه من كون عدم النجاسة شرطاً في المصلّي، ففي الواقع يبقى المشروط في الصورة الثانية والثالثة ـ أيضاً ـ نفس الصلاة بلا إشكال، ولكن الشرط أصبح عبارة عن نفي الإضافة بين الثوب والنجاسة، أو بين المصلّي والنجاسة


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 72 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 54 ـ 57.

83

أوالنجس، أوقل(بلسان المانعية): إنّ المانع هي الإضافة بين الثوب والنجاسة، أو بين المصلّي والنجاسة أو النجس، وبالإمكان أن تقلب هذه الإضافة الحرفيّة إلى معنىً اسمي يصبح طرفاً للإضافة مع الصلاة، من قبيل تبديل الإضافة الظرفية بين المصلّي والثوب النجس إلى عنوان لبس النجس.

ولاختصار الحديث نحذف فرض تبديل الإضافة إلى معنىً اسمي، ونحذف ـ أيضاً ـ فرض كون عدم النجاسة شرطاً في المصلّي الذي لا يختلف أثره في ما نحن بصدده عن فرض كونه شرطاً في الثوب، فينحصر الكلام بذلك في فروض ثلاثة:

1 ـ أن يكون المانع الثوب النجس، بأن يكون نفس الثوب عند النجاسة هو المبطل للصلاة بظرفيّته للصلاة، والنجاسة جهة تعليلية.

2 ـ أن يكون المانع النجاسة أو نجاسة الثوب مثلاً بظرفيتها للصلاة أيضاً، فالمبطل هنا نفس النجاسة لا الثوب.

3 ـ أن يكون المانع الإضافة الموجودة بين الثوب والنجاسة، فهنا لم تلحظ نسبة الظرفيّة بين الصلاة والثوب، أو الصلاة والنجاسة، كما في الفرضين الأوّلين، بل لوحظت النسبة بين نفس الثوب والنجاسة، وبما أنّ ظرفيّة الثوب أو النجاسة للصلاة أو المصلّي محذوفة في هذا الفرض الثالث فلا بدّ من أخذ هذا القيد في طرف الإضافة المفروضة بين الثوب والنجاسة، بأن يقال مثلاً: إنّ المانع هو أن يكون ثوب المصلّي نجساً؛ إذ من الواضح أنّ نجاسة ثوب آخر غير ثوب المصلّي لا تبطل صلاته.

وبموازاة هذه الصور لمانعيّة النجاسة تتعدّد ـ أيضاً ـ صور شرط الطهارة.

وقد رتّب الأصحاب على هذه الفروض ثمرات في اللباس المشكوك(1) وغيره، ولا بدّ


(1) كأنّه(رحمه الله) ينظر إلى ما ذكره الشيخ النائيني(قدس سره) في اللباس المشكوك ص 293 بانياً على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزلي من أنّ مانعيّة أجزاء غير المأكول إن رجعت إلى اعتبار أن لا يكون المصلّي متلبّساً بها أو مصاحباً لها ونحو ذلك من الاعتبارات اللاحقة للفاعل فسبق تحقّق ذلك في المصلّى عند عدم لبسه للمشكوك كاف في تصحيح استصحاب العدم، وإن رجعت إلى اعتبار أن لا يكون اللباس ونحوه متّخذاً منها ولا مشتملاً عليها، اتّجه التفصيل في جريان استصحاب العدم بين ما إذا كان المشتبه هو نفس اللباس مثلاً أو يكون من عوارضه الموجبة لخروجه عمّا كان عليه من عدم الاشتمال والتلطّخ بأجزاء غير مأكول اللحم، فيجري استصحاب العدم في الثاني دون الأوّل، وإن رجعت إلى اعتبار عدم تخصّص نفس الصلاة بخصوصية الوقوع في أجزاء غير مأكول اللحم ومانعيتها بما هي لاحقة لنفس الصلاة، فاستصحاب العدم لا يجري على الإطلاق؛ لأنّ هذه الصلاة مشكوكة

84

من ملاحظة حال تلك الثمرات بعد تصوير تلك الفروض بالنحو الذي عرفناه هنا.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الصحيح خلافاً للمحقّق الإصفهاني(قدس سره) وجود فرق ذاتي بين فرض الطهارة شرطاً وفرض النجاسة مانعة:

أمّا على الوجه الأوّل فواضح؛ لأنّ الثوب الطاهر أمر وجودي في مقابل الثوب النجس ولو كانت الطهارة أمراً عدمياً، وعليه فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا على الوجه الثاني والثالث، فلأنّ مفهوم الطهارة الخبثية وإن لم يكن بازائها أمر وجودي في الخارج أو في عالم الفرض والتشريع من قبيل النورانية التي تقال مثلاً في الطهارة الحدثية، لكن هذا لا يعني كون الطهارة أمراً عدميّاً محضاً، بل هي أمر عدمّي مطعّم بشيء من الثبوتيّة (ولا يستفاد من مسلّمات المحقّق الإصفهاني خلاف ذلك)، فالطهارة تفترق عن عدم النجاسة من قبيل افتراق عنوان الفوت عن عدم الإتيان الذي يقال: إنّه لا يثبت باستصحاب عدم الإتيان، ولا أقلّ في تطعيم الطهارة بشيء ثبوتي من تطعيمها بمسألة الاتّصاف، فلا تكون عدماً نعتيّاً، إذن فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا ما ذكره السيّد الاُستاذ من إنكار الثمرة بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة فهو ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّنا نبرز ظهور الثمرة بينهما في موردين:

الأوّل: في جريان البراءة أو الاشتغال لدى الشكّ في طهارة الثوب، فعلى اشتراط الطهارة يجرى الاشتغال مطلقاً، وعلى مانعيّة النجاسة تجري البراءة على بعض الصور المتقدّمة.

والوجه في ذلك هو ما مضى في مبحث الشبهة الموضوعيّة من البراءة والاشتغال من أنّه إذا كان الشكّ في انطباق العنوان المتعلّق للحكم على حصّة من الحصص كان الشكّ شكّاً في التكليف، وتجري البراءة، كما لو شككنا في صدق عنوان قتل المؤمن الحرام على قتل زيد؛ للشكّ في إيمانه، فتجري البراءة بقطع النظر عن انقلاب الأصل في الدماء مثلاً، وإذا أحرزنا انطباق العنوان على الحصّة وشككنا في تحقّق تلك الحصّة بفعلنا، كان الشكّ شكّاً في الامتثال، كما لو شككنا في أنّه بإطلاقنا هذا الرصاص هل يقتل زيد المؤمن لمصادفته إيّاه، أو


الحال في ذاتها، وليست مسبوقة بحالة سابقة تستصحب في المقام.

ثم استظهر(رحمه الله) من الأدلّة الثالث، أعني: مانعيّتها عن الصلاة بما هي من الخصوصيّات اللاحقة لنفس الصلاة دون المصلّي مثلاً أو ما يصلّي فيه.

85

لا يقتل لعدم المصادفة، فهنا تجري أصالة الاشتغال. وعليه فنقول في ما نحن فيه: إذا كانت الطهارة شرطاً بأيّ نحو من الانحاء الثلاثة المتقدمة، فالشكّ متمحّض في حصول الواجب بالصلاة في هذا الثوب وعدمه، فتجري أصالة الاشتغال، وإذا كانت النجاسة مانعة فعندئذ إن تصوّرنا ذلك بالنحو الأوّل، أعني: أنّ المانع هو الثوب والنجاسة حيثيّة تعليليّة، فهذا ينحلّ بتعدّد الثوب النجس، ويكون الشكّ في نجاسة ثوب شكّاً في مانع جديد تجري البراءة عنه؛ لأنّنا شاكّون في كون الصلاة في هذا الثوب متّصفاً بنحو مفاد كان الناقصة بكونها صلاة في الثوب النجس، ويشترط في حرمتها اتّصافها بذلك.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثاني، أي: أنّ المانع هو النجاسة أو نجاسة الثوب، فهنا وإن تمّ الانحلال ـ أيضاً ـ إلى موانع عديدة، ولكنّنا حينما شككنا في نجاسة ثوب ليس هذا معناه الشكّ في حرمة الصلاة في نجاسة هذا الثوب، بل هذا مقطوع به بناءً على ما نقّحناه في محلّه من أنّ فعليّة مانعيّة المانع لا تتوقّف على وجود المانع بنحو مفاد كان التامّة، وإنّما الشكّ شكّ في تحقق هذا الحرام بالصلاة في هذا الثوب وعدمه نظير الشكّ في حصول قتل زيد بالرصاص، فهنا لا بدّ من الاحتياط.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثالث، أي: أنّ المانع عبارة عن أن يكون ثوب المصلّي نجساً، فهنا ـ أيضاً ـ يثبت الانحلال، لكن بلحاظ تعدّد أثواب المصلّي إذا لبس أثواباً متعدّدة، فتوجد موانع متعدّدة لا بلحاظ مطلق الأثواب الخارجية؛ لما مضى من أنّه ليس كون أيّ ثوب نجساً هو المانع، وهنا ـ أيضاً ـ نقول بما قلناه في النحو الثاني من أنّ الانحلال لا يشفع لجريان البراءة؛ لأنّ المهمّ في المقام ما ذكرناه من أنّ فعليّة المانعيّة ليست مشروطة بوجود المانع خارجاً، فيكون المورد مورداً للاشتغال.

والخلاصة: أنّنا لو قلنا باشتراط فعليّة المانعيّة بوجود المانع خارجاً، فالبراءة تجري في كلّ الأنحاء الثلاثة للمانعيّة لدى الشكّ، ولكنّها لا تجري في فرض شرطيّة الطهارة. ولو قلنا بعدم اشتراط فعليّة المنع بوجود المانع خارجاً: إمّا لاستظهار لفظي، أو لعدم معقولية هذا الاشتراط، كما اخترنا ذلك في بعض أبحاثنا الماضية، فالشكّ في النحوين الأخيرين من أنحاء المانعيّة يلحق بفرض شرطيّة الطهارة في أنّه يكون مجرىً للاشتغال دون البراءة، ويكون النحو الأوّل من أنحاء المانعيّة هو المورد الوحيد لجريان البراءة لدى الشكّ.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة ثمرة فرضيّة وتقديريّة؛ لأنّه على أيّ حال تجري أصالة الطهارة، فيتنقّح بذلك وجود الشرط أو عدم المانع.

86

قلت: يمكن فرض عدم جريان أصالة الطهارة لسقوطها بمعارض، كما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا الثوب أو ذاك الماء الذي كان قد استعمله في الوضوء وانتهى بالاستعمال، ولنفترض أنّ وضوءه به كان مع الغفلة؛ كي لا تجري قاعدة الفراغ وتعارض أصالة البراءة في المقام.

الثاني: ما إذا شكّ في النجاسة الذاتيّة، كالشكّ في كون هذا اللباس من جلد الخنزير بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان أصالة الطهارة لدى الشكّ في النجاسة الذاتيّة، فعند ئذ لو قلنا بمانعيّة النجاسة رفعنا احتمال المانع باستصحاب عدم النجاسة الأزلي. و أما لو قلنابشرطية الطهارة فلا يمكن إحراز الشرط بالاستصحاب بناءً على كون الطهارة مطعّمة بمعنىً ثبوتي لا أقلّ من الاتّصاف.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة فرضيّة وتقديرية؛ لأنّه على أيّ حال يجرى في المقام استصحاب موضوعيّ، وهو استصحاب عدم الخنزيريّة مثلاً.

قلنا: إنّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري في ما هو ذاتيّ عرفاً كالخنزيريّة.

 

وجوه الشرطية والمانعية الملائمة لصحّة الصلاة حال الجهل:

والآن فلندخل في تصوير وجوه الشرطيّة والمانعيّة الملائمة لصحّة الصلاة عند الجهل. وكلامنا في ذلك يكون ثبوتياً. وأمّا البحث الإثباتي فمحوّل على الفقه.

والكلام تارةً يقع على تقدير مانعيّة النجاسة، واُخرى على تقدير شرطيّة الطهارة:

أمّا على تقدير مانعيّة النجاسة فذكر المحقّق النائيني(قدس سره)(1) في تصوير المطلوب وجهين:

1 ـ تقييد المانعية بكون النجاسة واصلة ومعلومة.

2 ـ تقييدها بتنجّز النجاسة.

وكلّ من هذين الوجهين يمكن فرضه بنحو التركيب، بأن يكون موضوع المانعيّة مركّباً من النجاسة والوصول، أو التنجّز، ويمكن فرضه بنحو تمام الموضوع، بأن يكون تمام موضوع المانعية هو الوصول أو التنجّز، وتظهر الثمرة في انكشاف الخلاف مع تحقّق قصد القربة رغم وصول النجاسة أو تنجّزها، فلو كان الوصول أو التنجّز تمام الموضوع للمانعيّة فقد بطلت الصلاة. وإن كان جزءاً للموضوع، والجزء الأخير هو الواقع، فانكشاف الخلاف يعني


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 346 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

87

انكشاف عدم وجود المانع، فتصحّ الصلاة.

أمّا الوجه الأوّل: وهو التقييد بالوصول والعلم، فغير صحيح، سواء اُريد بذلك العلم الوجداني أو اُريد به ما يعمّ العلم التعبّدي بناءً على مبناه من أنّ الأمارات تفيد العلم التعبّدي.

أمّا على الأوّل: فلأنّه يلزم من ذلك أنّه مع الشكّ يقطع بعدم المانعية، ولا معنى لاستصحاب عدم النجاسة؛ لأنّها خارجة عن موضوع المانعية بناءً على كون الوصول تمام الموضوع للمانعية، وهي جزء لموضوع المانعيّة بناءً على كون الوصول جزء الموضوع، ولا أثر لاستصحاب عدم جزء الموضوع لدى القطع بعدم الجزء الآخر، في حين أنّ مفروض الرواية في المقام هو الاستصحاب عند الشكّ في طروّ النجاسة.

وأمّا على الثاني: فإمّا أن يشترط وصول العلم التعبّدي بالوجدان، أو انتهاؤه إلى الوجدان ولو بعد توسّط عدّة علوم تعبّدية، أو لا يشترط ذلك، ويكتفى بوجود بيّنة على النجاسة مثلاً في الواقع غير واصلة. فإن قيل بالأوّل لزم ـ أيضاً ـ لدى الشكّ وعدم الانتهاء إلى الوجدان أن لا يكون مورداً لاستصحاب عدم النجاسة، وإن قيل بالثاني لزم بطلان الصلاة في الثوب النجس جهلاً مع وجود بيّنة غير واصلة، والفتوى الفقهية على خلاف ذلك، والمفروض فعلاً التفتيش عن وجه ثبوتي ينسجم مع ما في الفقه من الافتاء بالصحة في موارد الجهل.

وأمّا الوجه الثاني: وهو أخذ التنجيز في المانعيّة، فلا يرد عليه الاعتراض السابق؛ إذ بمجرّد الشكّ في النجاسة لا يقطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

وذلك واضح على مبنانا من إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لأنّ الأصل الأوّلي ـ عندئذ ـ هو التنجيز، ولا بدّ من رفعه بالرجوع إلى أصل شرعي، فيرجع إلى الاستصحاب كما يرجع إلى أصالة الطهارة مثلاً.

وأمّا بناءً على تسليم قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فلو أخذنا في المقام بصور المانعية التي تقتضي كون الشكّ في النجاسة شكّاً في الامتثال لا في التكليف، فالأمر واضح أيضاً؛ لأنّ الشكّ في النجاسة لم يرفع التنجيز ما دام راجعاً إلى الشكّ في الامتثال، فلم يوجب القطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

أمّا لو أخذنا في المقام بما يقتضي رجوع الشكّ إلى الشكّ في التكليف، فبالنسبة لما قبل الفحص عن حكم الشرع لدى هذا الشكّ لا إشكال ـ أيضاً ـ في التنجيز بلحاظ عدم

88

الفحص، ولا تجري البراءة وإن كانت الشبهة موضوعية، فإنّ هذا الشكّ وإن كان في ذاته شبهة موضوعية، لكن كلامنا في الحكم الشرعي لهذه الشبهة الموضوعية، وهذه شبهة حكمية يجب الفحص عنها بلا إشكال إلى أن نصل إمّا إلى القطع بعدم ورود أصالة الاشتغال من قبل الشارع في معرض الوصول إلينا بقدر إمكاناتنا عن الفحص، أو إلى مثل أصالة الطهارة، أو إلى هذا الاستصحاب.

نعم، من فحص عن حكم الشرع لهذا الشكّ ووصل إلى القطع بعدم ورود أصالة الاشتغال في معرض الوصول إلينا فهو لا يحتاج في مقام رفع التنجيز إلى هذا الاستصحاب، لكن هذا لا يعني سقوط الاستصحاب باللغوية، فحال وجود هذا الاستصحاب رغم كفاية البراءة العقلية لرفع التنجيز حال وجود البراءة الشرعية في موارد جريان البراءة العقليّة في الشبهات البدويّة، فالبراءة العقليّة شأنها نفي التنجيز ما دمنا لم نعلم بعد الفحص باهتمام الشارع بغرضه لدى الشكّ، والاُصول الشرعيّة المؤمّنة كالاستصحاب أو البراءة الشرعية شأنها إيصال عدم اهتمام الشارع بغرضه حذراً من أن يصل خلاف ذلك إلى العبد، ولا تنافي بينهما.

ومن هنا ظهر الحال فيما لو سلّمنا البراءة العقلية حتّى قبل الفحص، فإنّنا نقول: إنّ هذه البراءة هنا ليست ممّا لا يشكّ فيه أحد، فكان للشارع أن يبرز عدم اهتمامه بواسطة الاستصحاب دفعاً لتوهّم التنجّز.

إلاّ أنّنا مع ذلك كلّه نقول: إنّ أخذ التنجيز دخيلاً في الموضوع غير معقول بظاهره ما لم يُؤوّل بنحو يأتي إنشاء الله، وذلك للزوم المحذور في عالم الجعل، وفي عالم التنجيز، وفي عالم التعبّد الاستصحابي بالنجاسة.

أمّا الأوّل؛ فلأنّ المانعيّة علّقت في المقام على تنجّز النجاسة، وتنجّز النجاسة يعني تنجّز مانعيّتها، وأخذ تنجّز المانعية في موضوع المانعية محال، سنخ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، والتخلّصات الفنّيّة عن الإشكال التي تجري هناك لا تجري هنا، كما يظهر بالتأمّل والمقايسة بين المقامين(1).

لا يقال: إنّنا لا نفترض أخذ تنجّز المانعيّة في موضوع المانعية، بل نفترض أخذ تنجّز


(1) فمثلاً يقال هناك لرفع المحذور: إنّ بالإمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول؛ في حين أنّه لا يمكن هنا القول بأخذ تنجيز الجعل في موضوع المجعول، فإنّ تنجيز الجعل مساوق لتنجيز المجعول؛ لأنّ الجعل غير البالغ مرتبة الفعلية لا يقبل التنجيز.

89

ذات النجاسة في موضوع المانعيّة، أو أخذ تنجّز حكم آخر من أحكام النجاسة غير المانعية في موضوع المانعية.

فإنّه يقال: إنّ المفروض في المقام أن يكون المقصود بالتنجّز تنجّز المانعيّة. أمّا ذات النجاسة ـ بما هي حكم وضعي ـ فهي لا تقبل التنجيز والتعذير. وأمّا تنجّز حكم آخر غير المانعيّة من أحكام النجاسة، فيلزم من أخذه في موضوع المانعيّة صحّة الصلاة في اللباس النجس عمداً إذا لم يكن له أيّ أثر آخر قابل للتنجيز، أو كان له أثر آخر لكنّ الشخص كان جاهلاً به بحيث لم يتنجّز عليه، في حين أنّه لا إشكال في بطلان الصلاة في هذا اللباس عمداً.

ودعوى وجود أثر آخر قابل للتنجّز دائماً ـ ولا أقلّ من حرمة الدخول في الصلاة معه ـ غير صحيحة؛ إذ لو اُريد بذلك الحرمة التكليفيّة فهي ممنوعة، ولو اُريد بذلك الحرمة الوضعية فهي عبارة اُخرى عن المانعيّة، ولو اُريد بها الحرمة التشريعيّة فهي فرع احتمال المانعيّة، فيجب تصوير المانعيّة بقطع النظر عن الحرمة التشريعيّة.

وأمّا الثاني: وهو لزوم المحذور في عالم التنجيز؛ فلأنّه يلزم بطلان منجّزية العلم بالنجاسة فضلاً عن غيره من أدوات التنجيز، فلا يكون العلم بالنجاسة منجّزاً للمانعيّة سواء تكلّمنا في التنجيز الذاتي للعلم، أو تكلّمنا في التنجيز الذي يقال: إنّه يعرض للعلم الإجمالي بواسطة تعارض الاُصول وتساقطها:

أمّا الثاني؛ فلأنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين فتعارض الاُصول إنّما يكون في موارد العلم الإجمالي بسبب لزوم المخالفة القطعيّة، وهنا لو جرى الأصلان معاً لم تلزم المخالفة القطعية، بل ارتفع بذلك ما هو دخيل في موضوع التكليف حسب الفرض وهو التنجيز.

وأمّا الأوّل؛ فلأنّ العلم بالنجاسة حتّى لو كان تفصيلياً لا يمكن أن يؤثّر في المقام أثره الذاتي من التنجيز؛ لأنّ العلم إنّما ينجّز لو تعلّق بتمام الموضوع، والمفروض أنّ التنجيز هنا دخيل في الموضوع، فمنجّزية هذا العلم فرع أن يكون علماً بالتنجيز أيضاً، وكونه كذلك فرع المنجّزية، فلزم الدور، وبتعبير أصحّ: أنّ منجّزيّة العلم فرع أن يكون علماً بتمام الموضوع في المرتبة السابقة، وهذا ليس علماً بالتنجيز في المرتبة السابقة.

وأمّا الثالث: وهو لزوم المحذور في المقام في مرحلة التعبّد الاستصحابي بالنجاسة، فلنوضّح الكلام في المقام في صياغة مبنىً من المباني في الاستصحاب الموضوعي، وهو مبنى كون مرجع الاستصحاب الموضوعي إلى جعل حكم مماثل لحكم ذلك الموضوع.

فنقول: إنّه لو كان الاستصحاب في المقام هو استصحاب تمام الموضوع كان الحكم المماثل

90

واضحاً، ولكنّه ليس كذلك، وإنّما هو استصحاب لجزء الموضوع وهو النجاسة، ويكون الحكم المماثل الثابت باستصحاب جزء الموضوع هو الحكم المعلّق على تحقّق الجزء الآخر، وهذا ما يكون المحقّق النائيني(رحمه الله) مُلزماً به حسب مبانيه وإن لم يلتزم به صريحاً، فالحكم المماثل هنا هو المانعيّة على تقدير الجزء الآخر وهو التنجيز، فالاستصحاب يفيد تنجيز المانعيّة على تقدير التنجيز، ومن المعلوم أنّه على تقدير التنجيز لا معنىً للتنجيز مرّة ثانية(1).

إلاّ أنّ هذه المحاذير إنّما تترتّب لو أخذنا بهذا الوجه، أي: دخل التنجيز في المانعيّة بظاهره، ولكن يمكن تأويله بنحو يتفادى كلّ هذه المحاذير، وذلك بأن يقال: إنّه ليس المقصود بأخذ التنجيز أخذ التنجيز الفعلي، بل المقصود هو أخذ ما يصلح للمنجّزية،أي: أن يكون هناك كاشف للنجاسة بحيث لو كانت النجاسة حكماً تكليفياً قابلاً للتنجيز لتنجزت به، ولعلّ هذا هو مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله) وإن كانت العبارة قاصرة، فيرتفع بذلك كلّ المحاذير السابقة:

أمّا بلحاظ عالم الجعل، فكنّا نقول: إنّ المفروض أن يكون المقصود بالتنجيز تنجيز المانعية لا تنجيز نفس النجاسة؛ لأنّ النجاسة لا تقبل بذاتها التنجيز، فلزم أخذ تنجيز المانعيّة في المانعيّة وهو مستحيل، والآن نقول: إنّ المقصود تنجيز نفس النجاسة، ولا محذور في ذلك؛ لأنّنا لم نرد بذلك التنجيز الفعلي، وإنّما المقصود هو: أنّها لو كانت حكماً تكليفيّاً لتنجزت، وهذا ثابت قطعاً.

وأمّا بلحاظ عالم التنجيز فكنّا نقول: إنّ العلم يجب أن يكون علماً بتمام أجزاء الموضوع حتّى ينجّز، وأحد أجزائه هنا هو التنجيز، ولا يعقل التنجيز في الرتبة السابقة، ولكن هنا نقول: إنّ أحد أجزائه ليس هو التنجيز، بل الصلاحية للتنجيز، أي: أنّ النجاسة لو كانت حكماً تكليفياً لتنجّزت، وهذا ثابت قد تعلّق به العلم، فالعلم قد تعلّق بتمام الموضوع، فيتنجّز به الحكم، وعندئذ لو أردنا إجراء الاُصول في أطراف العلم الإجمالي لزمت المخالفة القطعيّة، فتتعارض الاُصول وتتساقط.

وأمّا بلحاظ عالم الاستصحاب، فكنّا نستشكل في الاستصحاب بأنّ استصحاب جزء


(1) هذا فيما إذا أردنا إجراء استصحاب النجاسة، ويأتي شبيه ذلك فيما إذا أردنا أن نستصحب عدم النجاسة، فاستصحاب عدم أحد جزئي الموضوع ـ أيضاً ـ إنّما ينتج على تقدير تحقّق الجزء الآخر؛ إذ لولاه لكان الحكم المقصود نفيه بالاستصحاب منتفياً على أيّ حال، والجزء الآخر في المقام هو التنجيز، والهدف من استصحاب عدم النجاسة هو التعذير، ولا معنىً للتعذير على تقدير التنجيز كما هو واضح.

91

الموضوع معناه جعل حكم مماثل لحكم الموضوع على تقدير الجزء الآخر، والجزء الآخر هو وجود المنجّز بالفعل، فصار الجعل مشروطاً بوجود المنجّز بالفعل، ومع فرض التنجيز في المرتبة السابقة لا يعقل جعل منجِّز آخر، ولكنّنا نقول هنا: إنّ جعل المماثل ليس مشروطاً بوجود المنجّز بل هو مشروط بوجود كاشف صالح للتنجيز، وهذا الكاشف هنا عبارة عن أركان الاستصحاب، وفي طول وجود أركان الاستصحاب يجعل المولى التنجيز بجعل الحكم الاستصحابي، ولا محذور في ذلك.

ثم إنّ الشيخ الكاظمي(رحمه الله) ذكر في تقريره (فوائد الاُصول) ثمرة بين وجهي المانعيّة، أي: أخذ الوصول في الموضوع أو التنجيز فيه، وهي: أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين وصلّى مثلاً العصر في أحدهما والمغرب في الآخر، ثمّ انكشفت نجاسة كلا الثوبين، فإن قلنا: إنّ الموضوع هو النجاسة المنجّزة بطلت كلتا الصلاتين لوجود نجاستين، والتنجّز غير مختصّ بأحد الطرفين، فهنا نجاستان منجّزتان كلّ منهما تبطل إحدى الصلاتين. وإن قلنا: إنّ الموضوع هو النجاسة الواصلة بطلت إحدى الصلاتين فقط؛ لأنّه لم تصل إلينا إلاّ نجاسة واحدة، وهنا يتحيّر في أنّه ماذا تبطل من الصلاتين؟ هل تبطل إحداهما لا بعينها؟ وأيّ معنىً لذلك؟ أو تبطل إحداهما معيّنة؟ وما هو المعيّن لها؟(1)

إلاّ أنّ الموجود في (أجود التقريرات) هو: أنّه على كلا التقديرين لا تبطل إلاّ صلاة واحدة. أمّا على تقدير أخذ الوصول؛ فلأنّه لم تصل إلاّ نجاسة واحدة. وأمّا على تقدير أخذ التنجيز؛ فلأنّ التنجيز بمقدار العلم والعلم تعلّق بواحدة ثمّ الصلاة الباطلة في المقام هي الصلاة الاُولى؛ لأنّ المعلوم الإجمالي هو صرف الوجود، فنعلم ببطلان إحدى الصلاتين بنحو صرف الوجود، وصرف الوجود ينطبق ـ لا محالة ـ على الفرد الأوّل(2).

فكأنّه قاس المقام بمسألة: أنّ الأمر إذا تعلّق بصرف الوجود سقط بمجرّد تحقّق أوّل فرد يصدر من المكلف؛ لانطباق صرف الوجود عليه لا محالة.

أقول: لنسلّم الآن أنّ المعلوم بالإجمال هو صرف الوجود، ولكن لا معنىً في المقام لانطباقه على الوجود الأوّل بمعنى تعيّن الوجود الأوّل للبطلان، وذلك لوجهين:

1 ـ أنّه إن قصد من انطباق صرف الوجود على الوجود الأوّل انطباق الجامع بحدّه


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 345 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 367 ـ 368.

92

الجامعي عليه، فهذا خلف كونه فرداً أوّلاً في باب العلم وفي باب الأمر معاً، فإنّ الجامع بحدّه الجامعي لا ينطبق على الفرد الأوّل ولا على الفرد الثاني؛ لأنّ المفروض تحدّده بحدّ خاصّ. وإن قصد بذلك أنّ الفرد الأوّل مصداق لصرف الوجود، فينطبق عليه انطباق الكلّيّ على مصداقه، فالثاني ـ أيضاً ـ كذلك، ولا فرق بينهما، وما يقال في باب الأمر من الانطباق على الأوّل قهراً مرجعه نكتةٌ ترجع إلى الأمر المحمول على الطبيعة، لا إلى نفس الطبيعة؛ وذلك لكون الأمر ناشئاً من ملاك واحد، وقد حصل الملاك، فينتفي الأمر، فصرف الوجود هناك كان محموله ـ وهو الأمر ـ سنخ محمول يضمحلّ بالفرد الأوّل، وهذا بخلاف ما لو فرض المحمول هو العلم كما في المقام.

2 ـ أنّه وقع الخلط بين العلم الإجمالي الذي نحن بصدده والعلم الإجمالي الملحوظ في هذه الكلمات.

توضيحه: أنّه لو كان طرفا العلم الإجمالي طوليين، كما لو علمنا إجمالاً أنّ زيداً: إمّا يصلّي في يوم الجمعة، أو السبت، فصلّى في كلا اليومين، فلنفرض أنّ العلم ينطبق في المقام على الفرد الأوّل، فصلاته في يوم الجمعة هي الصلاة المعلومة إجمالاً، ولا تصل النوبة في ذلك إلى الصلاة الثانية، ولكن فيما نحن فيه يجب أن نتكلّم في تعيين المانع عن صحّة الصلاة، ويجب أن يكون للمانع تعيّن واقعي حتّى تتعيّن بذلك الصلاة الباطلة، وقد علم إجمالاً أنّ المانع: إمّا هو نجاسة هذا الثوب، أو نجاسة ذاك الثوب، وهما فردان عرضيّان نريد أن نعيّن المانع منهما قبل أن يصلّي المصلّي في أيّ واحد من الثوبين. هذا كلّه هو تعليقنا على ما في (أجود التقريرات) في المقام.

وأمّا ما مضى نقله عن (فوائد الاُصول) من أنّه مع فرض نجاستهما معاً واقعاً إن كان الدخيل في الموضوع هو الوصول بطلت إحدى الصلاتين؛ لأنّ الواصل نجاسة واحدة. وإن كان الدخيل فيه هو التنجّز بطلت كلتاهما لتنجّز كلا الطرفين، فقد أورد عليه السيد الاُستاذ بأنّه حتّى على القول بدخل التنجيز ـ أيضاً ـ ليس عندنا إلاّ تنجيز واحد.

وبيان حاقّ مراده: أنّ في موارد العلم الإجمالي وإن كنّا نقول بمنجّزيّة المعلوم بالإجمال في تمام الأطراف، لكن ذلك إنّما هو من جهة تعارض الاُصول، وإلاّ فالعلم الإجمالي إنّما يستوجب تنجيزاً واحداً للجامع دون الأطراف بما هي أطراف، والاُصول المتساقطة في الأطراف إنّما هي الاُصول الجارية بلحاظ العناوين التفصيليّة، كأصالة الطهارة في هذا الثوب وفي ذاك الثوب، ولكن هذا لا يمنع عن إجراء الأصل في عنوان إجمالي، وذلك بأن

93

نقول: نحن علمنا بنجاسة أحدهما وشككنا في نجاسة الثاني، فنجري أصالة طهارة الثاني، إذن فلم تتنجّز إلاّ نجاسة واحدة(1)، فلم تبطل إلاّ صلاة واحدة.

أقول: تارةً نتكلّم بناءً على دخل التنجّز في الموضوع، وهو الفرض الذي وقع الخلاف فيه بين فوائد الاصول والسيد الاُستاذ في أنّه هل يوجب بطلان كلتا الصلاتين أو إحداهما، واُخرى نتكلّم بناءً على دخل الوصول الذي يبدو أنّه مورد اتّفاق بينهما في أنّ الباطل واحد، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في فرض دخل التنجيز، وأنّه هل يتنجّز واحد أو اثنان. والكلام فيه يقع في جهتين:

1 ـ في تشخيص الوظيفة الظاهريّة قبل انكشاف تنجّس كلا الثوبين.

2 ـ في تشخيص الحكم الواقعي بعد الانكشاف، وأن الوظيفة الظاهرية قبل الانكشاف هل تؤثّر في الوظيفة الواقعية بعده أو لا؟

أمّا الجهة الاُولى: وهي في مقدار ما هو المنجّز عليه قبل الانكشاف، فالتحقيق: أنّ الصور هنا ثلاث:

1 ـ أن يعلم بنجاسة أحد الثوبين ويحتمل نجاسة الآخر، ولا تعيّن للمعلوم واقعاً لو كانا نجسين.

2 ـ نفس الصورة الاُولى بفرق افتراض كون النجاسة المعلومة لها تعيّن واقعي، كما لو علم بنجاسة دمّيّة في أحد الثوبين واحتمل نجاسة بوليّة في الآخر.

3 ـ أن يعلم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر.

أمّا الصورة الاُولى(التي هي أشكل الصور) فقد يقال كما مضى عن السيد الاُستاذ: إنّنا نجري الأصل المؤمّن عن النجاسة الثانية بعنوانها الإجمالي، إلاّ أنّ هذا يحتاج إلى تعميق وتحقيق، فنقول: إنّنا تارةً نتكلّم في الاُصول العقليّة، واُخرى في الشرعيّة. امّا إذا تكلّمنا في الاصول العقليّة مبنيّاً على القول بالبراءة العقليّة، فبالإمكان أن يقال: إنّ نجاسة واحدة منجّزة بالعلم، والثانية مؤمّنة بالشكّ، ولا إشكال فيه، ولا يقال: إنّ الفرد المردّد لا وجود له،


(1) هذا الذي جعله اُستاذنا(رحمه الله) بياناً لحاقّ مراد اُستاذه يكون إلى هنا مصرّحاً به في المصباح: ج 3، ص 56. إلاّ أنّ ما ورد في مصباح الاُصول ليس بصدد إبطال الثمرة بين مانعيّة العلم بالنجاسة ومانعية تنجيزها، بل بصدد إبطال الثمرة بين شرطية الطهارة ومانعية النجاسة. نعم، يستنبط منه ـ أيضاً ـ قهراً بطلان الثمرة بين مانعية العلم بالنجاسة ومانعية تنجيزها، فراجع.

94

فلا معنى لتنجيزه والتعذير عنه، فلابدّ من التعيّن الواقعي لمصبّ التنجيز والتعذير، ولا تعيّن له هنا، فإنّنا نقول: إنّ التنجيز والتعذير ليس مصبّهما الوجود الواقعي، وإنّما مصبّهما الوجودات الواصلة، أي: الوجودات العلميّة والظنّية والشكّيّة والوهميّة، والمقدار الواصل معيّن في اُفق وصوله، وهو عنوان أحدهما، فأنا أعلم بنجاسة أحدهما، فيتنجّز المقدار الواصل، وأشكّ في نجاسة الثاني، فأكون معذوراً عنها. وأمّا إذا لم نؤمن بالبراءة العقلية وتكلّمنا في الاُصول الشرعية فقد بيّنت في لسان الأدلة بلسان الحكم الشرعي ككّل شيء لك حلال المحتاج إلى موضوع خارجي، فلا بدّ من تعيّن مصبّها خارجاً، وعند ئذ توجد لدينا صيغ ثلاث في مقام التعيين:

1 ـ أن يقول العالم: عندي نجاسة معلومة وأشكّ في نجاسة الثوب الثاني، فأجري الأصل المؤمّن عنها. وهذا واضح البطلان؛ لأنّ النجاسة المعلومة غير متعيّنة على فرض تعدّد النجاسة في الواقع الذي هو المفروض في المقام، وغير المتعيّن يكون غيره ـ أيضاً ـ غير متعيّن لا محالة.

2 ـ أن نجري الأصل لا في الطرف الثاني كما في الصيغة الاُولى، بل في كلا الطرفين، ببيان: أنّ في كلّ طرف شكّين: أحدهما احتمال وجود النجاسة المعلومة فيه، وهذا لا يدفع بالأصل للتعارض، والثاني احتمال وجود نجاسة اُخرى، وندفعه بالأصل. وهذا كسابقه في البطلان؛ لأنّ النجاسة المعلومة غير معيّنة، فغيرها ـ أيضاً ـ لا يكون معيّناً.

3 ـ أن نجري الأصل المؤمّن في كلا الطرفين بالفعل، لكن نقيّد كلاً منهما بما إذا كان الآخر نجساً(لا تقل: لماذا لا تشترط كون الآخر طاهراً؟ لأنّه في هذا الفرض نعلم بنجاسة الأوّل). وهذا الوجه معقول، وفائدة ذلك: أنّنا نعلم إجمالاً بتماميّة شرط أحد الأصلين على أقلّ تقدير، فيتولّد من إجراء الأصلين بهذا النحو العلم الإجمالي بوقوع إحدى الصلاتين مع الطهارة الظاهرية، وهذا مؤمّن لا محالة، وتأمين العلم الإجمالي عقلّي، فلا بأس بالتردّد الخارجي فيه كما عرفت، ولا يتعارض الأصلان في المقام عند نجاسة كليهما(وهي المفروض)؛ لأنّ الواصل منهما أحدهما. وهذا الوجه لا إشكال فيه ثبوتاً، لكنه غير صحيح إثباتاً على ما مضى منّا من الإشكال في هذا النحو من التخيير في إجراء الأصول في محلّه(1).

 


(1) لا أتذكّر أنه مضى شيء من هذا القبيل، والظاهر أنّ هذا اشتباه، وأنّ الذي مضى إنّما هو الحديث عن الترخيص في كلّ واحد من الطرفين على تقدير عدم الترخيص في الطرف الآخر، أي: أنّ الحديث كان عن

95

وأمّا الصورة الثانية، وهي ما لو كان هناك تعيّن واقعي للنجاسة المعلومة إجمالاً، فلا بأس فيها بإجراء الاُصول العقلية والشرعية عن النجاسة البولية مثلاً؛ لأنّها شيء مشكوك فيه، وليس هنا معلوم إجمالي متساوي النسبة إليه وإلى النجاسة الاُخرى حتّى يستشكل في جريان الأصل الشرعي كما في الصورة الاُولى.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي ما لو علم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر، فأيضاً يلتزم فيها بوحدة المنجّز، ولا فرق هنا بين التعيّن الواقعي وعدمه، فلنفرض أنّ هذا الشخص كان مشتبهاً، وكان كلاهما نجساً في الواقع، ومع ذلك يكون الثاني بعنوانه الإجمالي معذّراً عنه، ولا بأس بعدم التعيّن الخارجي؛ لأن المعذّرية والمنجّزية هنا عقلية (على أنّه هو يعتقد التعيّن، فيجري في عمله حسب اعتقاده).

وأمّا الجهة الثانية: وهي بلحاظ ما بعد انكشاف الحال، فالصحيح أنّه لا بدّ من لحاظ الأدلّة التي تقيّد المانعيّة، لنرى مقدار تضييقها لها، فإنّ مقتضى الطبع الأوّلي لها هي المانعية المطلقة للنجاسة، وإنّما رفعنا اليد عنها بالروايات الخاصّة الدالّة على صحّة الصلاة عند الجهل، وهي كلّها واردة في الشبهات البدوية التي تكون مجرىً لأصل مؤمِّن يعيِّن وظيفة المكلف خارجاً ويحدّدها، فنرفع اليد عن الإطلاق بهذا المقدار. وأمّا التأمين الذي يكون من قبيل ما نحن فيه فيحتمل الفرق بينه وبين التأمين المتعارف، فنرجع في ما نحن فيه إلى إطلاق المانعية، فتبطل كلتا الصلاتين.

ولو فرضنا شمول الأدلّة المخصّصة لتأمين من هذا القبيل، وجمدنا على حاقّ اللفظ في قولنا: إنّ المانعية دائرة مدار التنجيز نفياً وإثباتاً، قلنا: أمّا في الصورة التي يوجد للمعلوم


الترخيص والتأمين في مقابل نفس الحكم الواحد المعلوم بالإجمال بهدف أن نصل إلى جواز المخالفة الاحتمالية والتخيير في مخالفة التكليف في أحد الطرفين، فأبطل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ذلك: تارةً بأنّ هذا لا يثبت التخيير، بل يثبت ترخيصاً في فرد غير معيّن، وهو لغو، واُخرى بأنّ هذا في روحه ترخيص تعييني من دون مرجّح، ومجرد عدم معرفتنا للطرف المرخّص فيه لا يرفع إشكال عدم الترجيح، فإنّ ملاك الترخيص وهو الشكّ نسبته ـ على أيّ حال ـ إلى الطرفين على حدٍّ واحد، وملاك عدم الترخيص وهو حرمة المخالفة القطعية ـ أيضاً ـ نسبته إليهما على حدٍّ واحد، فإشكال لزوم الترجيح بلا مرجح باق على حاله.

راجع بهذا الصدد أواخر بحث شبهة التخيير قبيل تنبيهات العلم الإجمالي. أما في ما نحن فيه فالكلام إنّما هو في التأمين في مقابل تكليف ثان لا في مقابل التكليف الواحد المعلوم بالإجمال، ومن الواضح أنّ إطلاق دليل التأمين يشمله، وأثره عدم استحقاق عقاب ثان لمن ارتكب الطرفين.

96

بالإجمال تعيّن واقعي، فلا شكّ في أنّ إحدى الصلاتين بعينها باطلة والاُخرى بعينها صحيحة. وأمّا في الصورة التي لا يوجد له تعيّن واقعي، فهنا لو لم يكن هذا التأمين موجوداً لتنجّزت كلتا النجاستين وشملهما دليل المانعية، لكن بعد التأمين بمقدار الواحد لا يمكن لدليل المانعية شمولهما جمعاً، والشمول لأحدهما بعينه غير صحيح؛ لأنّ هذه النجاسة نسبتها إلى المعلوم الإجمالي كنسبة الاُخرى إليه، فلا مبرّر لتطبيق المعلوم على ذاك دون هذا، ولا يبقى في المقام إلاّ فرض جعل المانعية للمجموع بأن ينهى المولى عن الصلاة في مجموع الثوبين، وهذا معقول في صلاة واحدة، بأن يصبح لبس مجموعهما فيها مبطلاً لها، ولا يعقل في صلاتين بأن يحرم لبس المجموع حتّى بالتوزيع فيهما؛ لأنّ معنى ذلك: أنّ إحدى الصلاتين مقيّدة بعدم أحد الثوبين، وليست كلتاهما مقيّدة بذلك، وإلاّ لبطلت كلتاهما، وهو خلف عدم تنجّز كلتا النجاستين، وتقييد إحدى الصلاتين في المقام غير معقول؛ لأنّ التقييد إنّما يكون بلحاظ متعلّق الأمر، فلو تعلّق الأمر بعنوان إحدى الصلاتين تعقّل تقييدها، لكنّ الأمر متعلّق بكل واحدة من الصلاتين بعينها لا بإحدى الصلاتين، وبذلك يسقط دليل المانعية رأساً، ويجب الرجوع إلى قدر متيقّن في المقام،وعند ئذ قد يقال: إنّ القدر المتيقّن من المانعية لا يشمل المقام أصلاً، أو لا يقتضي أكثر من ترك إحدى الصلاتين تخييراً، ولكنّ الواقع: أنّنا لا نحتمل أن يكون فرض نجاسة كلا الثوبين أحسن حالاً من فرض نجاسة أحدهما، بأن يفترض أنّه لدى نجاسة أحدهما تبطل إحدى الصلاتين، ولدى نجاستهما معاً وعدم تعيّن للمعلوم بالإجمال تصحّ الصلاتان، أو يلتزم مثلاً بالمانعية التخييرية في فرض نجاستهما، أي: أنّه يجوز له أن يصلّي في أحد الثوبين، وصحّة صلاته في أحدهما مشروطة بعدم الصلاة في الآخر، أو إعادتها لو صلاّها فيه في ثوب آخر مثلاً، فهذا ـ كما ترى ـ تسهيل في فرض نجاسة كلا الثوبين غير موجود عند نجاسة أحدهما فقط؛ إذ المانعية هناك تعيينية وهنا تخييرية، وهذا ممّا لا نحتمله، وهذا معناه: أنّ القدر المتيقّن أكثر من هذا المقدار، فننتهي إلى مانعيّة كلتا النجاستين.

هذا. وقد تحصّل بما ذكرناه إشكالان على السيّد الاُستاذ.

أحدهما: مقتنص من الجهة الاُولى، وهو أنّ إجراء الأصل عن الثاني غير محتمل في بعض الأحيان(1).


(1) قد عرفت أنّ هذا غير صحيح.

97

وثانيهما: مقتنص من الجهة الثانية، وهو أنّ دليل المانعية قد لا يمكن تطبيقه على إحدى الصلاتين دون الاُخرى، لا لعدم تقييد إطلاقه بلحاظ مثل المقام فحسب، بل لما عرفت ـ أيضاً ـ من بطلان الشقوق عقلاً، وهي مانعية هذه النجاسة بعينها أو تلك بعينها، أو مانعية المجموع، فيسقط دليل المانعية، ولا بدّ من الرجوع إلى قدر متيقّن من الخارج.

المقام الثاني: في فرض دخل وصول النجاسة في المانعيّة، وقد انقدح من مطاوي كلماتنا في المقام الأوّل ما ينبغي أن يقال على هذا الوجه، ومحصّله هو: أنّه منذ البداية إمّا أن نجمد في بيان المانع على حاقّ عنوان النجاسة المعلومة كما كنّا أحياناً نجمد على عنوان النجاسة المنجّزة، أو نتصرّف في ذلك، بأن نقول: إنّ دليل المانعيّة مطلق، وإنّما يقيّد بالعلم للروايات الخاصّة والواردة في فرض الجهل الحاكمة بصحّة الصلاة، والقدر المتيقّن منها هو فرض الجهل المتعارف، فما نحن فيه باق تحت إطلاق دليل المانعيّة.

فإن مشينا على المشرب الثاني، قلنا بلحاظ ما قبل الانكشاف: إنّ احتمال نجاسة ثانية مساوق لاحتمال مانعية ثانية؛ لأنّ المفروض أنّ النجاسة الثانية ـ لو كانت ـ فهي داخلة تحت إطلاقات المانعيّة، فتجري الاُصول المؤمّنة عن هذه المانعيّة، أو لا تجري على التفصيل الماضي في الشقوق الثلاثة في المقام الأوّل. وأما بعد انكشاف نجاسة كلا الثوبين فيظهر للمكلف بطلان كلتا الصلاتين.

وإن مشينا على المشرب الأوّل فبلحاظ الجهة الاُولى، أي: قبل الانكشاف يقطع المكلف بأنّه لا يوجد أكثر من مانع واحد؛ لعدم وصول أكثر من نجاسة واحدة، وهذا هو الفرق بين أخذ العلم وما مضى من أخذ التنجّز في الموضوع، فهناك احتجنا إلى الأصل المؤمّن دفعاً للتنجيز، وهنا لا نحتاج إليه.

نعم، مع فرض عدم التعيّن الواقعي للمعلوم بالإجمال يأتي الإشكال الماضي في كيفيّة تصوير المانع، كما نشير إليه بالنسبة إلى ما بعد الانكشاف.

وأمّا بلحاظ الجهة الثانية، أي: بعد انكشاف نجاسة كلا الثوبين فمع تعيّن المعلوم بالإجمال تكون الصلاة فيه هي الباطلة والاُخرى هي الصحيحة، ومع عدم تعيّنه يأتي ما مضى من الإشكال بشقوقه الأربعة: من أنّه هل المانع كلاهما، أو هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص، أو مجموعهما؟

هذا تمام الكلام على تقدير مانعية النجاسة.

وأمّا على تقدير شرطيّة الطهارة، وهو الذي اتّجه إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) على ما يظهر

98

من عبارته(1) فلا بدّ من فرض توسعة في الشرط تنسجم مع صحّة الصلاة عند الجهل.

ونلفت النظر إلى أنّه يوجد فرق أساس بين ما مضى من تضييق دائرة المانعيّة وما يجب أن نتكلّم فيه هنا من توسعة دائرة الشرطيّة، وهو أنّه في الأوّل كنّا نقصد التضييق، فلم نحتج إلى إخراج النجاسة عن المانعيّة، بل كان بالإمكان فرض بقائها في دائرة المانعيّة مع إضافة قيد آخر إليها كقيد الوصول، أو التنجيز، فتصبح النجاسة جزء المانع. وأمّا هنا فالفرض توسيع دائرة الشرطيّة، فلا بدّ لنا من إخراج الطهارة الواقعيّة بخصوصيّتها عن دائرة موضوع الشرطيّة، وعزلها بالمرّة حتّى بنحو جزء الموضوع؛ إذ لو دخلت بخصوصيّتها ـ ولو بنحو جزء الموضوع ـ بطلت الصلاة بعدمها. وهذا هو الذي يثير إشكالاً ما كنّا نواجهه بهذا الوضوح في تضييق المانعيّة، وهو أنّه بعد العزل كيف نجري استصحاب الطهارة مع أنّها ليست دخيلة في الحكم ولو بنحو جزء الموضوع، وهذا بخلافه على المانعيّة التي يمكن أن يقال فيها: إنّ استصحاب النجاسة أو عدمها يجري؛ لانها جزء الموضوع.

هذا. وفي مقام توسيع دائرة الشرطيّة عبّر المحقّق الخراساني(رحمه الله)(2) بأنّ الشرط هو إحراز الطهارة ولو بأصل أو قاعدة، وعبّر المحقّق النائيني(رحمه الله)(3)بأنّ الشرط هو العلم بالطهارة، ولا بدّ أن لا يكون مقصوده هو العلم الوجداني بالطهارة الواقعية كما هو واضح، إذن فلا بدّ من تصوير المطلب بأحد وجوه:

1 ـ أن يقصد العلم الوجداني بالجامع بين الطهارة الواقعيّة والظاهريّة. وهذا لا يكفي في تصحيح الفتاوى الفقهيّة؛ لأنّه يلزم منه بطلان الصلاة فيما لو صلّى بلا مؤمّن بداعي الفحص بعد الصلاة والعمل بالتكليف مثلاً، ثمّ تبيّن بعد الفحص الطهارة.

2 ـ أن يقصد نفس الجامع بين الطهارتين، فيرتفع الإشكال السابق، ولكن يلزم منه بطلان الصلاة فيما لو صلّى مع القطع بالطهارة ثمّ تبيّنت النجاسة. وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح.

3 ـ أن يقصد مطلق المؤمّن، فيشمل العلم الوجداني كما في المثال السابق، فيرتفع إشكال الوجه السابق.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 292، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكيني. وراجع ـ أيضاً ـ تعليق الآخوند على الرسائل، ص 181 حسب منشورات بصيرتي.

(2) راجع المصدرين السابقين.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 345 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 363.